منذ أن اشتد الحصار على مخيم خان الشيح في سوريا، وضاقت أحوال الناس فيه، تحول كثير من المثقفين والمتعلمين وحتى موظفي الدولة إلى البحث عن أعمال أخرى قد تؤمن لهم قوت يومهم . سامر، أستاذ مادة اللغة العربية وبائع السجائر و الخبز حالياً، يستيقظ عند بزوغ كل فجر جديد، يُحضر دراجته النارية ثم ينطلق على متنها الى البلدة المجاورة للمخيم. التي أبَرم طرفا الصراع فيها نوعاً من الهدنة هذه الأيام، لذا اصبحت بمثابة الرئة التي يتنفس منها المخيم.
إلا أن الطريق الوحيد الذي يفضي الى هذه البلدة، كونه خال من الحواجز الأمنية ومن زحمة السيارات المتوقفة على تلك الحواجز، هو بالحقيقة طريقٌ وعر يمر بالبساتين والأراضي الزراعية، لم يسلم من القذائف المتساقطة على بيوت المخيم و شوارعه. يستغرق سامر في طريقه الى مصدر بضاعته حوالي الساعة. يتفاجأ كل يوم بغلاءٍ في السلعة ذاتها «الدولار في ارتفاع و الليرة السورية في هبوط ملحوظ» يقول له البائع في تبرير لرفع الاسعار المستمر. حتى عامة الناس هنا أصبحت تتابع أسعار صرف العملة بعد ما كانت هذه المهمة مقتصرة على رجال الاعمال أو هكذا يعتقد أهل المخيم.
يبتاع سامر مشترياته ليعاود بيعها للناس المتبقين في مخيمه. «طلاب الأمس هم زبائن اليوم» يقول سامر ، وقد أضاف مؤخراً إلى بضاعته، بعض أحجبة النساء، بعدما تفاجأ بأن حبيبته ارتدت الحجاب. كيف تفعل ولم؟ عند سؤاله لها عن الموضوع أجابته ان الامر لا يتعدى اتباع «الموضة»!
بالرغم من المعاناة اليومية لأهالي المخيم نتيجة الحصار المفروض عليهم إلا أن الحياة داخله مستمرة، وتجري الايام على مبدأ شاعر بلادهم الذي قال يوماً « على هذه الأرض ما يستحق الحياة». فبعدَّ قصف السوق التجاري للمخيم نقل سامر وزملاءه الباعة بسطاتهم الى الساحة العامة وحولوها الى سوق جديدة تنبض بالحياة وبصيحات الباعة لتصريف بضاعتهم. ساعات قليلة يمضيها هؤلاء في السوق يبيعون حوائج الناس في فترات «الهدوء النسبي» الذي غالباً ما يسبق عاصفة، أو وابلا من العواصف نتيجة الصراع المحتّدم هنا.
ما ان يؤمن ارباحه البسيطة، حتى يعطي أحد سائقي الباصات ثمن ليتر من العرق ليشتريه له معه من المدينة. أصبحت زجاجة «عرق الريان» من الاحتياجات اليومية لسامر بعد قيام الجماعات المتشددة التي سيطرت على المخيم بتكسير محلات المشروبات الروحية وفرض عقوبة على مروجيها و شاربيها، هو يظن أن الحرية تبدأ بالعقل الثَّمل مكرراً عبارته «السكرَّان هو نبع الحريات في ازقة المخيم «.
في الآونة الأخيرة أصبح يشرب وحيداً وبالسر. ليس فقط عن أمه التي تكره رائحة المشروب وتخاف من شاربه بل عن جميع أصدقائه أيضاً. او ربما خوفاً من «أولي الأمر» هذه الأيام .
هذا الشاب القابض على جمر أيدولوجيته، يشبه كثيراً صورة «حنظلة» المعلقة على جدران غرفته. يدير ظهره للجميع ويعمل ما تمليه عليه قناعاته، يكتب عن البؤساء و الفقراء وقود الثورة «التي لا تغير بوصلتها أبداً وهدفها واحد: فلسطين ولا الضالين «على ما يقول .
يُرَّقع ما تبقى من فرح بحياته كما يُرقع بنطاله الذي اشتراه قبل ثلاث سنوات عندما كان سعر الدولار خمسون ليرة سورية، يختم سهرته المليئة بصخب المخيم و مآسيه وتراجيديات الموت الحاضرة فيه، بصرخة سكر على الطريقة الدارجة هذه الأيام : يصعد على سطح منزله ويصرخ بملء صوته في سكون الليل: تكبيييييير!.