الجليل | الحياة ليست سهلة هنا، اعتقد انها ليست سهلة في اي مكان على سطح هذا الكوكب، لكنها هنا بشكل خاص تصير غير محتملة احيانا (ومؤخرا غالبا) وتجبرك على مواجهة تناقضات لا نهائية، دون ان تعرف طريقة لتفادي هذه التناقضات. مهما حاولت ان تتخيل ان لديك قدرة على التجاهل، ومهما حاولت ان تطور هذه القدرة وان تتحلى بها، تقع دائما امام مواقف لا يمكنك ان تحتملها ولكنك تجبر على «معايشتها»، وانت لا تفهم لماذا انت مجبر، الا انك مجبر، لانك تريد ان تعيش وان تتعايش مع حياة فرضت عليك وواقع لم تختره!
حيفا، تلك المدينة المقدسة، التي تحدث عنها الشهيد «غسان كنفاني» والتي كان يحن اليها «محمود درويش» دائما، هي اكثر مدينة تستفزني في فلسطين المحتلة، حيفا التي كنت احبها جدا في ما مضى صارت مدينة مدنسة، مدينة تحتضن تناقضات شديدة وتجبرك على التعايش مع واقع لا تريده، حيفا التي صارت رمز «التعايش المشترك» بين الفلسطينيين والاسرائيليين لم تعد نفسها حيفا التي في الكتب، ما زالت جميلة، ما زالت عروس البحر والكرمل، لكنها لم تعد طاهرة منذ زمن...
مؤخرا بدأت عملا جديدا، انا بحاجة للعمل، حتى استطيع تأمين قسط التعليم الجامعي، حتى استطيع مواكبة الحياة ومتطلباتها وحتى ابدأ «بتكوين نفسي» بطريقة او باخرى، عليّ ان اعمل، وكان من حظي ــ بعد ان تقدمت لعدة وظائف ورُفضت ــ ان قُبلت للعمل بوظيفة «موظفة خدمة زبائن هاتفية» في شركة الاتصالات «اورانج» والتي لها فرع ايضا هنا...
دون الخوض في تفاصيل هذا العمل (الذي لم ابدأ به بعد) والتي ليست مهمة ولا تتعدى الاجابة على اتصالات الزبائن الذين لا يجيدون استخدام هواتفهم. يتضمن العمل شهرا من التدريب التقني، ضمن مجموعة من الموظفين الجدد (مثلي)، والذين اتضح لي منذ اول يوم ان معظمهم انهوا خدمتهم العسكرية الالزامية مؤخرا، اي انهم جميعا جنود احتياط جدد، ربما ليسوا جنودا مقاتلين، الا انهم جنود، وان كان قسم منهم تهرب من الخدمة الالزامية وبعد عدة محاولات هرب «طرد» من الخدمة!
وعليّ انا ان ابتسم في وجوههم صباحا، وان ارد على تحيتهم (بمثلها على اقل تقدير) كل هذا بصفتهم «زملاء» في العمل... حتى تأتيني احداهن لتسألني ان كنت املك (كباقي افراد المجموعة التي تتلقى التدريب) شهادة تسريح من «الجيش» وتسألني اخرى نصيحة «قانونية» (بصفتي ادرس القانون في جامعة حيفا) حول قضية لها تتعلق بتهربها من الخدمة العسكرية، ليستوجب علي الشرح اني غير ملزمة باحضار اي شهادة تسريح من الجيش لاني اصلا ارفض الخدمة التي لست ملزمة بها، واني لا ادرس القانون العسكري!
ولم يكن هذا كافيا، ليكشفوا لنا (وكلهم فخر)، ان المبنى الذي تقع فيه الشركة، وحيث تتم دورة التدريب اياها سُميّ «بيت إيال» على اسم ضابط احتياطي قتل خلال الانتفاضة الثانية قرب نابلس كان يعمل مديرا في الفرع في حيفا بالضبط حيث اعمل انا الان.
وكأن ما كان ينقصني هو المزيد من التناقضات لأعيشها يوميا ...
لكن، ربما عليّ ان اتوقف عن «التعايش»، ربما علي ان ارفض الواقع الذي تفرضه عليّ «حيفا» دون سواها من مدن فلسطين المحتلة، ذاك الواقع الذي يتوجب عليّ فيه ان «اتعايش» معهم وأن «أتقبلهم» جيراناً.
لطالما قلت اني لا احب حيفا، رغم انها جميلة، رغم انها مقدسة، ولطالما استنكروا عليّ قولي هذا، لكنهم قليلون اولئك الذين يعترفون بأن حيفا لم تعد حيفا التي عاد اليها «غسان كنفاني» وليست تلك الجميلة التي كان يحن لها «محمود درويش»، وان حيفا هي المدينة الوحيدة التي يتغنى بها الجميع على انها رمز للعيش المشترك والتعايش، المدينة لا تحدث بها اي مواجهات على خلفية قومية والتي يقيمون فيها احتفالات ومهرجانات مختلفة للتعايش والسلام.
حيفا كاذبة، كيف تصدقها ان قالت لك انها تحبك؟ كيف تصدقها وهي تحتضن العدو بدفء وتغفو في حضنه مستسلمة؟ حيفا لا تكره الاعداء، حيفا مراوغة، تجمعك بهم، لتقرعوا كأس «التعايش المشترك» بعد ان تكون قد مزقتك واشبعتك كذبا.. «حافظ على بيتك» تقول لك، وأعط غريمك غرفة منه، فتنصاع صاغرا لحبها.. حيفا جميلة وانت تحبها، حيفا كاذبة ان قالت انها ما زالت تلك الطاهرة التي احببتها قديما.
حيفا تفرض عليك الآن ان تبتسم بوجههم كل صباح وترد عليهم التحية، حيفا تجبرك على ان تذهب يوميا الى مكان عملك في مبنى شُيّد لاحياء ذكرى من تلطخت يداه بقتل اهلك، حيفا متوحشة جدا، حيفا موحشة جدا!