المكان والزمان والشمس الساطعة فوق «مخيم نهر البارد»، جرحنا المفتوح وأمسنا المنكوب الباقي والمتبقي من آثار النكبة. سألت رجلاً كان يجلس قربي: كم عمر نكبتنا؟ فأجاب: «في عامها الثامن. والكبرى في عامها السابع والستين، الجرح يكبر مع أعمارنا كأنه صديق التاريخ وحليفهُ الأول»، فقلت لهُ: «دمت أيّها الواقفُ في جموحِ الوقتِ وسحابة الذاكرة، فكم ينقصنا من أشياء الحياة لنعيد هذا المكان المؤقت إلى طبيعتهِ المؤقتة؟ ليبزغ فجر المخيم من جديدٍ ويبقى الأمل مفتاح الحلم والبيت والروح معاً؟».
أطلُّ من بحر الدامون، هذا المكان يشبه الأمواج وهي تركضُ وراء الريح، ام امامها؟ هل يخاف المخيم من بحرٍ يعانقهُ؟ أم أن المخيم هو نفسهُ الشراع الملقى على رأس الموج في رقصة الريح؟ بلا أسئلةٍ وبلا مصيرٍ، في كل يومٍ ينبثقُ جرحٌ ما، من نكبةٍ إلى نكبةٍ إلى عائقٍ للأحلام من هنا وهناك. كقرارات الأمم المتحدة الاخيرة التي وقفت في وجه الحياة، لتصنع تابوتاً للبراءة والكرامة.
في المخيم أشعر بطول الليل وقصر النهار. ههنا يكمن التشابه بين المخيم والظلام واشتهاء الضوء من قلب العتمة. لمن نصيح في الهزيع الأخير من الليل؟ أنيروا لنا الطريق لنعبر إلى ذاتنا لنرى الأرض أوضح.
لا نريد في هذا الزمان الصعب سوى أرضنا. ما أجملها من مفردات تخرج من فم الطفل عفوية المعنى والكلمات، وسط البيوت التي ما زالت تحت الركام وتنتظر سقوط المطر من جهة السماء، السماء وحدها التي تحنُّ في زمن الجفاف العاطفي.
ناداني البائع من بعيدٍ وانا أعبر من الشارع الخلفي وفي يدي كاميرا. قال لي: «صوّرْ سلة المهملات»! قالها بشبه سخرية، فقلت لهُ بجد: سأفعل.
قال: «لا شيء يجدي»، اجبت في نفسي: «انت لا تعرف كيف نصنع من المعنى الصغير معاني كبيرة. لكنني لن أفعل كالسائح الأجنبي ولن أشبهه، أنا ابن المخيم وأشعرُ أني في غربتين بين الصحراء والمخيم». من أنا؟ عدتُ إلى النافذة لأنظر منها الغروب، يسبقني المشهد ويظهر في صورة الأفقِ، نزوحٌ جديدٌ من الحدودِ إلى مخيمٍ نازحٍ مثلهم. من هم؟ عائلات فلسطينية تتقدم من جهة الشام الى لبنان.
لا اختلاف في المأساة كلّكم سواسية أمام الجرح «ما دمتم فلسطينيين» متهمين بالبقاء على قيد الحياة، ومتهمين بكل شيءٍ أينما ولّيتم وجوهكم، فهل عبرت؟ لا. هل خرجوا من النقب والصحراء؟ سيخرجون إن بقينا صامتين على القتل المفتوح أمام مرمى الجريمة والفجيعة، فكلانا في الموت داخل الوطن وخارجه. نحن أبناء التراب فلا يسعنا إلا العزاء والبكاء والشعارات أمام ضوء الكاميرات الساحرات. فشكراً على دقيقة الصمت تلك، عن روح قبرٍ أعزل، شكراً.