نهر البارد | "أنا زلمي بدي أهج. زهقت هالعيشة (....) صار عمري 22 سنة، وحق علبة دخان عم أشحدها شحدة. شو بدك اياني أعمل؟ بطلع من الصبح، وبتتورم رجلي وأنا بدوّر على شغل، ومش ملاقي حتى زبال. بترجاك ما حدا يوقف بطريقي، وبلا حق عودة وبلا بطيخ". كلام جارح لصاحبه قبل سامعه. هو حال "عبودي" المقيم في مخيم نهر البارد كالكثيرين من أبناء جيله الذين فقدوا الأمل بعيش كريم في بلد كريم. هو على هذا الحال منذ فترة، كل ليلة وكل يوم نخوض نقاشاً مريراً. أنا بما أمثّل وأحمل من قناعات ومبادئ، وهو بما وصل به الحال من يأس وقنوط وقلّة حيلة.
عبد الرحمن تخرج من معهد سبلين، يحمل دبلوماً في "لحام الكهرباء". كانت فرحته كبيرة عند قبول ترشحه لدراسة هذ المهنة التي منّى نفسه أنه بواسطتها سيؤمن مستقبلاً وعيشاً كريمين، فكر أيضاً أنه لعل وعسى تُفتح له أبواب السفر إلى بلاد "العربان" للعمل، ومنذ تخرجه لم يألُ الشاب جهداً في البحث، إلا أن الأبواب جميعاً أقفلت في وجهه. حتى المصانع المحلّية التي تشترط الخبرة التي لم يكتسبها للأسف لعدم وجود فرصة له. هكذا، اتجه للعمل مرة في محل للسمانة وآخر بالحديد والباطون، وسرعان ما ينتهي به المطاف بعد شهر أو أكثر الى البحث من جديد عن عمل جديد مؤقت.
هذا هو حال فئة كبيرة من شباب المخيم الذي يشبه إلى حد كبير واقع الشباب في المخيمات الفلسطينية كلها، مخيمات ما زالت تعاني الأمرّين في البحث عن كرامة الإنسان، وحقه بالحياة والاستقرار والعمل. جيل حُرم من فرصة واحدة، ربما كانت لتغيّر مسار حياته بالكامل.
لم أعد أستطيع مناقشته، فقد أحسست أنني فقدت الحجة، وكثيراً ما أسمعه "يردح"، فألتزم الصمت أمام كلامه الموجع، لا أملك سوى ترداد بضع جمل أشدّ بها أزره. صار همه يشغل بالي، أين سيذهب؟ وكيف سيكون مصيره ومصير العديد من الشبان الذين يشبهونه في عالمنا المترع بالتطرف والإرهاب نتيجة الفقر والبطالة، والجهل والجوع؟!
ما هو دور مرجعياتنا؟ بدءاً من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، المسؤولة المباشرة عنا نحن اللاجئين، مروراً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاء بالدولة اللبنانية المضيفة، التي ما زالت تحرمنا من حقوقنا المدنية والإنسانية في العمل والتملك والحياة الكريمة.
إلى أن تريدون أن يذهب شبابنا الذي اعتبرناه في يوم من الأيام هو الأمل، وكنا نعدّه ليكون جيل التحرير والنصر؟ أم هي الخطة المرسومة من أجل إكراه شبابنا، وعوائلنا لركوب سفن الموت، للبحث عن بعض كرامة مفقودة في بلاد الإفرنج؟
يا ولدي، كل الطرق والأبواب سُدَّت في وجوهنا، وما معاناتك اليوم إلا امتداداً لمعاناة 67 عاماً من التهجير القسري والقهر والحرمان، التي أسفرت عن قيام ثورة أعادت لنا شيئاً من كرامة فُقِدت قبل أن يكتموا صوتها أو يحاولوا بالتفرقة والعمالة والتفقير.
يا ولدي لن يستقيم بنا الحال إلا بالعيش في وطن يعيش فينا منذ زمن بعيد، ونعيش فيه رغم المنفى. وطن يحتضننا بكرامة يمسح عنا ألم الغربة الطويل، وطن نحلم فيه بكوخ وزيتونة يكون رمزاً لتجذرنا فيه. وحتى يصير ذلك لا بد من ثورة على الذات تعيد لنا بعض ما فقدناه من عزة.
فاحذروا جميعاً ثورة لاجئ لن يخسر سوى القيد والخيمة.