ذهبت منذ فترة لأعيد تسجيلي في الجامعة اللبنانية بعد توقف لسنين طويلة. لكني، بعد عودتي من جديد إلى مقعد الدراسة الخشبي، لاحظت أنه لا شيء اختلف «منذ أيامي» عن هذه الأيام سوى نظام الدراسة الذي سأحكي عنه بعد قليل. ونحن، طلاب الجامعة اللبنانية، ندعوها «اللبنانية» اختصاراً، ولا ندعوها باختصار الأحرف الأولى من اسمها، كما يفعل تلامذة الجامعات الخاصة، مثل «آي يو بي». ولو دعوناها بالطريقة نفسها، لكان اسمها «أل يو»، نسبةً إلى حرف «أل» في «ليبانيز» وحرف «اليو» في «يونيفيرستي». تغيب عن «اللبنانية» سنين وسنين، وتعود لتجد أن لا شيء تغير: المعلمون هم أنفسهم، الأثاث نفسه، مع أنه عرضة للتحلل والموت التدريجي أو... الخطف!نعم، «الخطف».

في اللبنانية، يدخل أحد المعلمين برفقة موظف، ليتفقد إن كانت الطاولة التي توضع في كل صف أمام المعلم لا تزال في مكانها، ثم يلتفت مبشّراً مَن معه بأنّ في هذا الصف ما زالت الطاولة موجودة! وفي اللبنانية تشكو المعلمة من أن «اللوح هو قصاص» المدرّس؛ لأنه لا يُمحى. وفي اللبنانية تغيب وتعود فتشعر بأن الطلاب هم أنفسهم لم يتغيّروا: فهذه الطالبة تشبه طالبة مجتهدة كانت قبل سنوات عدة، وتذكّرك بدورها بأيام المدرسة. وتلك الطالبة تشبه أخرى كانت من زمان، هي نموذج الأم القوية الإرادة، المصرّة على متابعة تعليمها بعد انقطاع طويل. وذلك الطالب يشبه طالباً كان بدوره يبحث عن عمل لكي يتابع دراسته. وذلك يشبه آخر يبحث عن الجنس الآخر (وتفيد الجملة بالمعنى نفسه من دون «الآخر»)، وتلك المجموعة من الطلاب تشبه مجموعة كانت مسيطرة على قرار الطلاب والاتصال بالإدارة على أيامي. لا، لحظة. تلك المجموعة هي المجموعة نفسها اليوم فعلاً!
ليس الأمر بالمهم لي أنا الفلسطيني؛ ففي النهاية إنها اللبنانية. في هذا الفرع تذكر فلسطين يومياً لاستقطاب الطلاب «نخبة المجتمع». وفي ذاك الفرع، في منطقة أخرى، ستذكر بدلاً منها «إسرائيل» و«الغريب» الفلسطيني يومياً لجذبهم. وهناك طبعاً «خبص» كثير بالنسبة إلى الفروع، لن أدخل في معمعتها. وأنا طبعاً ممنوع من الاشتراك في انتخابات الطلاب وإلخ إلخ... وذلك في كل فروع اللبنانية، بالرغم من أن صديقاً قديماً كان يحاول استقطابي، لجعلي في المجموعة المسيطرة، ولو بنحو غير رسمي. لكنني طبعاً رفضت؛ لأنها اللبنانية.
نظام اللبنانية القديم فرنسي، أما النظام الجديد، فهو: فرنسي أيضاً! أخبرنا طالب أمضى سنوات من حياته لإجراء بحث عن هذا النظام ـــــ ومع هذا يبدو أنه لا يعرف عنه الكثير ـــــ أن النظام المطبّق هنا هو نفسه الذي ثبت فشله في فرنسا (لماذا أشعر بأن هذه الجملة مألوفة؟). ألذلك يحاول الكثير من الطلاب والمعلمين استخدام الكلمات الفرنسية بعد ذكر المرادف العربي لها؟
لا. الكلمات الفرنسية تسعى دوماً إلى الظهور فخمة متأنّقة، كقنينة المشروب الجميلة المظهر، ولكنها الأكثر استثارة للقيء إذا ما أكثرت الشرب. واللبنانيون يكثرون من الفرنسية، وعلى الرغم من هذا، فإنني وزملائي اللبنانيين وغير اللبنانيين أيضاً نسعى إلى العلم.
اللبنانية؟ ألتزم دوماً قراراتها. وأتقبّل منها علامة لا أقبل بها في أي مكان آخر. لكن الأخبار التي سمعتها عن إنشاء الجامعة الفلسطينية تجعلني جاهزاً ومستعداً دوماً للانتقال إلى الأخيرة. حقيقة، سأكون فخوراً بأنني درست مرحلة ما في اللبنانية، وفخوراً جداً بأن أكمل دراساتي العليا يوماً ما هناك، في جامعتنا.
* عضو فرقة «الكتيبة خمسة»