كأنه مشهد ككل المشاهد التي تمر بها في حياتك اليومية، في يوم عادي أو في يوم صاخب. يحمل ذقنه الخفيفة وبشرته الحنطية السمراء إلى كل الأمكنة وفي كل المناسبات، كأنها لا تكتمل بدونه. يمشي متمهلاً، يعطي طريقه حقه من خطواته. لم يتلعثم يوماً بما أخفى لأنه لا يخفي أي شيء. لا يخاف من إظهار قول أو فعل، أو حتى «عبسة» تدل على المعاتبة، أو بسمة.يعاند جرحاً عميقاً، فلا يسلمه نفسه، رغم أنه يحتفظ به لنفسه. الكل يعرف قصة جرحه، لكنهم لا يدركون مذاق ذاك الجرح.

بعضهم يظن أن للجرح مذاق الحلويات العربية وإلّا فلم يحتفظ به لنفسه من دون أدنى مشاركة؟ يلاحقونه في كل حركاته وكلماته وإيماءاته، في كل ما قد يدلّهم إلى طرق الجراح، يستدلّون إليها فيختار الأكثر شجاعة بينهم أن يسيروا فيها، وعندما لا يجدون غير المرارة، يتركون الجرح العميق لينفرد متى شاء بالأعمى الذي يعانده بدوره ليبقى بذهن صافٍ أبداً.
لصديقنا الأعمى حفيد شاب قوي البنية. ولأنه يحب جده، فهو كثيراً ما يزور «دار سيده»، في ذلك المخيم الآخر المحبب إلى نفسه. فالمخيم أصبح مثله، يمشي ويفكر متمهلاً، ولا يخفي أو يخاف، ويبتسم هو الآخر.
عادة ما يقوم الأعمى، عندما يزوره حفيده، بجولة ميدانية معه في المخيم. قد تكون زيارات لأقارب آخرين أو أصدقاء، أو قد تكون مجرد جولة ليرى الحفيد ويعرف المخيم، بعين جده. يعرض الشاب مراراً أن يحمل جده على كتفيه. أحياناً يقبل الجد، وأحياناً يرفض. لكن الشاب لن ينسى ذلك اليوم، عندما أقنع جده بحمله ليوصله إلى منزله قبل تساقط المطر. يومها، تاهت الشمس بين الغيوم العابرة، وتاه هو بدوره في متاهة زواريب المخيم. وأصبح، وهو يحمله، يدور حول محيط منزل جده، من دون أن يعرف أي زاروب يؤدي إليه. كان جده يطلب منه أن يسأل العجائز الجالسين أمام البيت. وكيف عرف أنهم يجلسون هناك من دون أن يصدروا أي صوت؟ لم يستطع أن يعرف. وعندما رأى الشاب بنتاً صغيرة ظريفة الملامح كانت تشير بيديها، قال له جده أن «اذهب حيث أشارت البنت تلك». كيف عرف أن في تلك الزاروبة بنتاً تشير بيديها؟ هذه الأحداث وغيرها دعت الشاب ليسأل نفسه مراراً «هل جدي كاذب يدّعي أنه أعمى لغاية في نفسه؟».
لا أحد يدري كيف ومتى فقد صديقنا بصره أو إن كان حتى يملكه من الأساس. ذاك الأعمى الثابت الخطى، الذي وإن لم يعلم بأي زاروبة هو، لا بل وإن تأخّر في العودة والوصول للدار فإنه سيصل حتماً.
*عضو في الكتيبة خمسة