فقد تجمّلنا لك بما هو متوافر لدينا من ثياب كنا قد ادخرناها لأعيادنا، وطفنا بين ركام بيوتنا لنبحث لك عن باقة ورد برية قد تكون نبتت بعد تسع سنوات عجاف، استطاعت أن تكافح للخروج من تحت الركام. فاعذرنا سيد بان كي مون لأننا لم نجد في حصّالاتنا ما يكفي لنشتري باقة ورد.
منذ أن سمعنا بزيارتك التاريخية لمخيمنا المنكوب، حاولنا جهدنا أن نستقبلك كما يليق بمقامك الرفيع. فنحن منذ 67 عاماً ننتظر من هو في منصبك، نمني النفس يومياً برؤيتك لتعبّر لنا حضورياً، وجهاً لوجه، عن قلقك مما نحن فيه من تشرّد وضياع. فأنت كريم بالقلق حسب ما سمعنا. فنحن أيضاً لنا وطن، كما أخوتنا السوريون، سلخنا عنه قهراً وظلماً، ومورست بحقنا كل أنواع القتل والظلم والاضهاد. وما زلنا أيها السيد، نقتل يومياً وتنتهك حرماتنا وتدمر بيوتنا ويشرَّد أهلنا في الجهات الأربع. ألم يأتك أيها السيد نبأ أهل غزة والضفة؟ أم أن قلقك الشهير لا يتسع لنا؟
منذ تسع سنوات ونحن نعاني في مخيم كنا نعتبره محطة، على سكة قطار العدالة الدولية الذي سيعيدنا ـ لا شك ـ نحو وطن اشتاق لنا واشتقنا له. نحن منذ 67 عاماً ضيوف في هذا البلد، ننتظر أن تنتهي هذه الضيافة الكريمة بأقل خسائر ممكنة.
عشرون دقيقة لم تكن كافية سيدي. فنحن بشوق لك: جهزنا براكساتنا الحديدية التي نقطنها منذ تسع سنوات بانتظار إعمار مخيمنا البارد شتاءً، الحارق صيفاً. جهزناها كبيوتنا، لتليق بتشريفكم. ونظفنا شوارعنا حتى لا تتغبر قدماك، ومنَّينا النفس بلقياك لتسمع منا أيضاً معاناتنا ونشكو لك ما أهمّنا وأغمّنا. أعددنا لك استقبالاً حضارياً يليق بمقامك الرفيع: غسلنا وجوهنا وقلّمنا أظفارنا جيداً وحفظنا أنشودة الصباح لننشدها لك كما في طوابير مدارس الأونروا. لكنك لم تأت! فقد كان وقتك الثمين لا يتسع لمقابلتنا، فأنت على موعد مع خيم النازحين من سوريا، فلا يستطيع قلبك الرحيم الرقيق أن يحمل همنا وهمهم، خاصة أن العالم اليوم، في هذا التوقيت السياسي الذي يريد إعادة صياغة المنطقة، قلق عليهم... فقط.
اصطففنا لك على جنبات الطريق لنلوّح لك بأكفّنا، لكن موكبك مرَّ مسرعاً ولم يرنا، كذلك حالت بيننا التدابير الأمنية. لماذا سيد كي مون؟ فالمخيم آمن باعتراف الجميع! لا بل إنه أكثر أمنا من أي منطقه أخرى! فقد أصبح مخيمنا نموذجياً، تماماً كما تريدون. كنا نود فقط أن تلامس كفك كفوفنا، علّها تمسح عنا بعضاً ممّا نحن فيه. كنا نودّ أن نذكرّك بأننا أيضاً بشر ننتمي إلى مجتمع الأمم المتحدة التي لا يبدو أنها متحدة إلا على إطالة ظلمنا وتهجيرنا من أرضنا. كنا نودّ أن نقول لك إننا نستحق الحياة ونستحق رعايتكم. كنا نود أن نذكّركم بأن معاناتنا طال أمدها وقد اشتقنا إلى وطننا أيضاً كما كل مبعد ومهجَّر ونازح.
كنا نودّ أن تتبارك مساكننا المؤقتة التي أعددتموها لنا مؤقتاً إلى أن يكتمل إعمار مخيمنا المنكوب، الذي طال كل هذه السنوات. كنا نودّ أن ترى أطفالنا كيف ينشأون وأين يلعبون وبما يلعبون. كنا نودّ أن تمسح كفّك رأس أحد أطفالنا المصابين بالسرطان، لعل الله ينزل عليه الشفاء ببركة لمساتك. كنا نودّ أن ترى المسنين في دار الشيخوخة كيف يزرعون لقمة عيشهم الكريم ويحصدونها. كنا نودّ أن ترى مقاهينا كيف غصّت بالشباب العاطل من العمل. كنا نريد أن نريك حدائقنا الغنّاء التي أنبتت من كل زوج بهيج. لماذا لم تمنحنا سيدي هذا الشرف؟ لماذا رحلت مسرعاً؟
لقد جئت ورحلت بطرفة عين. حتى إنه لم يتسنّ لك أن ترى شمسنا من أين تشرق وأين تغيب.
لا ندري ما هو السبب، لكننا نلتمس لك العذر. فوقتك ثمين. وقتك من ذهب. كان الله في عونك، فأنت تحمل همّ العالم أجمع. فالحمد لله الذي سنح لنا أن تعطينا من وقتك عشرين دقيقة.
شكراً بان كي مون.