لم يحلم الإسرائيليون وهم في أعلى درجات تفاؤلهم، بأن يصلوا إلى الحالة السياسية القائمة حالياً مع الفلسطينيين، ولم يتوقع الفلسطينيون وهم في أشد درجات التشاؤم أن تتحول علاقتهم مع الاحتلال إلى ما هي عليه اليوم؛ علاقة يمكننا توصيفها بأنها إعادة إنتاج لمشروع لم ينجح في السابق، وهو «روابط القرى»، لكنه ينجح الآن نجاحاً باهراً تحت مسمى «السلطة الفلسطينية».
كان الهدف من «روابط القرى» التي أنشئت في نهاية السبعينيات، إيجاد ممثل محلي للفلسطينيين يدور في فلك الاحتلال ولخدمته، حتى يكون بديلاً من «منظمة التحرير»، أو على الأقل «قيادة محلية» منافسة للقيادة الوطنية. بمجرد حدوث ذلك، يكون هدف ضمني أكبر قد تحقق للاحتلال، هو تفتيت البنية المجتمعية والسياسية للشعب الفلسطيني، هذه البنية التي لم يكن من الممكن تأسيسها بعد النكبة والشتات، إلا بولادة «منظمة التحرير». من السذاجة التعامل مع المنظمة كأنها مجرد إطار وطني مهمته تحرير الأرض، بل هي الجامع لشتات الشعب والمشكل لهويته والجدار الذي حماه طوال العقود الماضية من خطر الذوبان في المجتمعات الأخرى، فلا قيمة لتحرير الأرض إذا ضاع الإنسان؛ «الإنسان قضية»، كما قال غسان كنفاني.
بطبيعة الحال، هذه الأهداف المرجوة من «روابط القرى» غُلفت بشعارات اجتماعية اقتصادية، فكانت مصالح الناس المعيشية واليومية والإدارية هي المدخل لتسويق هذا المشروع. وقد أنشئت أول رابطة قروية في الخليل عام 1978، ثم انتقلت إلى رام الله ومناطق أخرى من الضفة. لكنّ القطاع الأوسع من أهالي القرى أحجم عن التعامل أو التعاون مع ممثليهم، وكان الرأي الفلسطيني الرسمي أن كل من ينخرط في هذا المشروع «خائن»، وفي 1981، اغتيل رئيس رابطة في قرية غرب رام الله، ما دفع وزير الجيش الإسرائيلي أريئيل شارون آنذاك، إلى تسليح رؤساء هذه الروابط في طريق تحويلها إلى ميليشيات... في النهاية، أخفق هذا المشروع وانطلقت الانتفاضة الأولى، التي وضعت حداً له.
لا يمكن أن تكون إسرائيل حينما ذهبت إلى أوسلو، قد فكرت في إمكانية أن تحقق هناك ما عجزت عن تحقيقه بـ«روابط القرى». لم يكن هناك أي مؤشر يدفعها إلى التفاؤل إلى هذه الدرجة. فرغم حالة الضعف التي أصابت «منظمة التحرير»، كمؤسسة وأحزاب في ذلك الوقت، بسبب الظروف الإقليمية والدولية المتمثلة خاصة بانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج، فإن تجربة الانتفاضة الأولى (برغم ثمنها البشري الباهظ) تجاوزت بآثارها الإيجابية النطاق السياسي المجرد، لتبني ثقافة شعبية قائمة على الانسجام الاجتماعي والعمل التعاوني. كما ساهمت في تأسيس وتدعيم اقتصاد مقاوم، ومؤسسات واتحادات ونقابات أثبتت فعاليتها في إدارة حياة الناس.
الاحتلال كان يبحث أساساً عن اعتراف فلسطيني بدولته، وأن يحقق الاختراق الأهم في الحصن العربي بعد الاختراق المصري، وإقامة ترتيبات سياسية تمنع عنه انتفاضة جديدة وتوقف العمل الفدائي من كل حدب وصوب. قد يكون هذا الترتيب اسمه حكم ذاتي محدود. حتى عندما فتح ياسر عرفات قناة تفاوض سرية في أوسلو بالتوازي مع قناة مدريد، وبرغم أن إسرائيل فوجئت بمدى ضعف الوفد هناك ولهفته للوصول إلى اتفاق بأي صورة، فإن طموحها بقي محدوداً بما يمكن أن تحققه. عرفات بشخصيته، وبرغم تحمله المسؤولية الأولى عن كارثة أوسلو، كان واحداً من الأسباب التي منعت الاحتلال من المغالاة في التوقعات، فقد بقي محافظاً على التوازن بين خطه «السلمي» والجوهر الوطني للقضية. هذا التوازن دفع أريئيل شارون (لما كان رئيساً للوزراء) إلى أن يضع له حداً في الانتفاضة الثانية.
كُسر هذا التوازن وانحرفت البوصلة بالكامل بعد سيطرة محمود عباس على النظام السياسي الفلسطيني. بداية، جاءت سيطرته على حركة «فتح»، التي خرجت من الانتفاضة الثانية منهكة مشتتة، وعليها أن تتأقلم مع غياب زعيمها التاريخي، وما لبثت أن وجدت نفسها أمام هزيمة قاسية في الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006 أمام «حماس». بعد هذه الهزيمة بأقل من سنتين، حدث الانقسام السياسي، فزادت التحديات وتعقيدات الوضع الفتحاوي والفلسطيني عموماً. هذه العوامل مجتمعة، حولت الخصم الأول لعرفات في سنواته الأخيرة، ليصير طوق النجاة لـ«فتح» من جهة، وللمجتمع الدولي صار عباس هو النموذج السياسي الذي يجب دعمه وتقويته في وجه نموذج «حماس». من هنا، حصل الرجل على ما يشبه الكرت الأخضر.
عباس ورث السلطة كمشروع فاشل لدولة وحوّلها إلى «روابط قرى» ناجحة

بكل تجرد وموضوعية، يمكن فهم «أبو مازن» في سنوات حكمه الثلاث الأولى، على أنه صاحب رؤية سياسية ويحاول تجريبها، وإن اختلفنا مع هذه الرؤية بالمطلق. فهو جاء ليحرج إسرائيل عبر تجنب كل ملاحظاتها وحججها المتعلقة بسياسة عرفات. منَع العمل النضالي نهائياً وأدانه، وبسط يديه لـ«السلام» من دون شروط، وامتثل لشروط المجتمع الدولي. حتى عندما وصلت «حماس» إلى السلطة وحدث الانقسام، زادت حماسة المجتمع الدولي له، لأنه بات «حمامة السلام» الوحيدة القادرة على إنقاذ «أوسلو»، لهذا عقد مؤتمر «أنابوليس» في تشرين الثاني 2007 للتوصل إلى «دولة فلسطينية» قبل مغادرة جورج بوش الابن الحكم. لم يحصل ذلك، وجاءت وثيقة سلام فياض عام 2009 تحت عنوان «فلسطين: إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة»، ولاقت بدورها دعماً دولياً سياسياً ومالياً، ربما لم يحصل منذ توقيع «أوسلو». ثمّ ذهب فياض وذهبت مبادرته من دون تحقيق أي خطوة عملية.
برغم تكرار الفشل، لم يراجع عباس ما يمكن أن نسميه «رؤيته السياسية»، بل ذهب إلى أبعد مما كنا نتصور. جرّد القضية الفلسطينية من جوهرها الوطني التحرري، ومسخ القضية وحوّلها إلى مجرد «خلاف مع جار». لم يسقط الخيار النضالي والمقاوم من حساباته فقط، بل حقره واعتبره مجرد فوضى. أسس هذا الرجل خطاباً سياسياً رسمياً لم نعهده في أي مرحلة من مراحل «الثورة الفلسطينية»، كأنه يحاول نزع صفة «احتلال» من ذهنية الفلسطيني وفرض علاقة «طبيعية» بينه وبين واقع غير طبيعي على الإطلاق؛ في سبيل ذلك، وتحت مسمى خادع هو «التنسيق الأمني» أسس الرجل شراكة أمنية مع الاحتلال تقوم على حفظ أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، وفي النتيجة حفظ وجود السلطة، بعيداً عن أي اعتبار وطني أو أدنى اكتراث بالشعب الذي يرزح تحت الاحتلال. ربما علينا أن نذكر تصريحاته الأخيرة مع القناة الثانية الإسرائيلية، حينما قال: «ضبطنا 70 سكيناً في مدرسة واحدة». هل فكر هذا الرجل للحظة أنه بهذا الكلام أدان كل من استشهد على حاجز عسكري خلال الأشهر الخمسة الماضية، وأنه حوّل كل طالب مدرسة إلى هدف لجنود الحواجز؟
محمود عباس ورث السلطة كمشروع فاشل لدولة بالمطلق، وكان خلّاقاً بأن حوّلها إلى «روابط قرى» ناجحة بكل المقاييس، من حيث الدور والجوهر والمضمون. لا يمكن فهم إرساله وفداً رسمياً للتعزية بضابط احتلال يحكم الضفة بقبضته العسكرية على أنه رؤية سياسية. لا يمكن فهم من يدين حتى العملية ضد مستوطن ويصفها بالإرهاب، فيما يصف اغتيال شاب في الخليل بحادث يحتاج إلى تحقيق وحكم قضائي... على أنه صاحب قضية أو مدافع عنها. لا يمكن تصديق من قال قبل أشهر إنه سيعيد النظر في مجمل اتفاقات أوسلو والتنسيق الأمني، وفي الأمس يترجى بنيامين نتنياهو، ويقول له: «جربني أسبوعاً فقط».
لذلك بالموضوعية وبالتجرد الذي تحدثنا به، نستطيع أن نقول إن مؤسسة السلطة تحولت اليوم إلى مشروع اقتصادي ــ أمني. ولم يعد من المعقول أن نستمر في فهم ما يحدث داخل السلطة ومنها ومن رئيسها، والتعامل معه على أنه مجرد رؤية سياسية متعثرة، وكأن شيئاً لم يحدث في السنوات العشر الأخيرة. ربما حان الوقت حتى يغير المثقف الفلسطيني، على وجه الخصوص، خطابه تجاه هذا الوضع القائم، الذي بات يهدد عمق المشروع الوطني والذات الفلسطينية.