غزّة | يحدّقُ أحدهم بنا بارتياب. لا شيء غير اعتياديّ فينا: هو لا يمسكُ يدي وأنا أقطعُ الشارع، وأنا لم أنفض عن معطفه غبار الطريق الذي علق به، ولم تلتصق خطوتي بخطوته. كنا فقط نتمشّي فى الشارع ونبحثُ عن مقهى قريب، دون أن ندرك أنّ الشرطيّ، بائع الفستق، صاحب محلّ الأحذية، بائعة العلكة التي تفترش الرصيف،الصبايا العائدات من مدارسهن، موظفّ البنك الذي كان يدخّن خارج مبناه، الوجوه الواجمة في الجنازة التى مرّت في الشارع، المرأتين اللتين تثرثران وتأكلان البوظة والرجل الذي كان يحمل كتباً وكيس خبز، جميعهم جميعهم، كانوا يحدّقون بنا .. بارتياب!يرفعُ النادل حاجبه في حركة آلية، يختلسُ النظر إلينا مليّاً وهو يضع صحون الحلوى والطعام على الطاولات الأخرى، يمسحُ كفيه بملابسه ويرحّب بنا في ما يشبه الابتسام، واضعاً كأسين من الزجاج أمامنا، ليصبّ الماء ببطء وهو يفتحُ أذنيه على آخرهما. كانت ملامحه تتقلّصُ بفضول وهو يحاول كسب أكبر قدر من الوقت ليفهم شيئاً ما، كاملاً، من حديثنا وهو يضع القهوة، يقفُ بتصلّب بالقرب منّا ويسألنا كلّ ربع ساعة عما إذا كنا نحتاجُ إلى شيء آخر!
كادت تفلت مني ابتسامة وأنا أنقرُ طرف الطاولة بضيق مكتوم، عندما خطرت لي فكرة: «عزيزي، ما رأيكَ أن ندعو النادل ليجلس معنا؟ سيصابُ بالقهر إذا لم نكمل له القصة!».
نتقابلُ في وسط المدينة، أنا آتي من الشارع الشرقيّ، وهو من جهة البحر المعاكسة. غالباً ما نصل معاً، فنلتقي عند كراج رفح الوحيد، نتصافحُ بودّ صامت وأصابع دافئة. يرمقنا «رئيس السائقين» بنظرات حذرة ومتقطّعة، يعلو صياح السائقين الآخرين وهم يلتقطون ركابهم من المارة. يتنازعون على الراكب الأخير فى سيّارة أحدهم، يفضّون العراك الذي تطور إلى اشتباك بالأيدي وشتائم بذيئة، يتوتّر الهواء بدخّان السجائر ورائحة أكواب الشاي الثقيل التي يتوزّعونها في ما بينهم. أصعدُ السيارة قبله، يميل رئيس السائقين هامساً في أذنه بصوت واضح: «خطيبتك؟»، يردّ عليه باقتضاب ساخر: «لأ مرتي»، يتصنّع السائق الدهشة: «اممم والله! الاستاذة بتركب من عنّا دايماً».
في السيّارة نتبادلُ الكلام بصمت، كلانا كان يقرأ أفكار الآخر، وكلانا يشعرُ بأنه مستباح لفضول هذا العالم الذي لا يكفّ عن التحديق.
في صباح اليوم التالي، أصلُ الكراج وحيدة لأذهب إلى عملي. يتابعني رئيس السائقين بنظراته الفاحصة: «تفضلي يا استاذة، تفضلي»، أختنقُ بتدخلّه الأبله وأنا أبحثُ عن سيّارة تُقلّني، قبل أن تختفي بقع الظلّ في الشارع وأحترق تحت الشمس.
في المساء، نلتقي بعد يوم منهك وطويل. تزعجه رطوبة الهواء الحار الذي لم يعتده بعد، ويزعجني تلصص البائع في مطحنة البُنّ على خاتمي خطوبتنا بتطفّل، بعدما قررنا أن نشتري كيس بُنّ مطحون بالهيل، لنشربَ قهوتنا بهدوء في المنزل.
قال لي إنه وجد اليوم سيارة بصعوبة، وإنه كان ضجراً من انتظار امتلاء كراس السيارات بالركّاب، لتتحرك إلى مدينة غزّة، وعندما انتبه رئيس السائقين لتأففه، قال له بسخرية: «الله يسامحك يا زلمة، مرتك قبل شوي طلعت بالسيّارة اللي قبلها، ما كان طلعتو سوا!».



القطاع المحاصر

تعدّ مدينة غزة المركز السكاني الأضخم في القطاع، إذ يبلغ عدد سكانها 5 مئة ألف نسمة. وهي مركز تجاري إداري، وتأتي خان يونس في المرتبة الثانية من حيث عدد سكانها الذي يبلغ 200 ألف نسمة، ورفح في المرتبة الثالثة بتعداد يبلغ 150 ألف نسمة.‏ يشار إلى أن غالبية سكان القطاع هم من اللاجئين الذين هُجّروا من أرضهم بعد نكبة عام 1948، ويعيش أغلبهم في ثمانية مخيمات حيث اندمجت بعضها مع البلدات القريبة ولا يزال بعضها الآخر منفصلاً‏. كذلك يُعد القطاع من بين أكثر بقاع الأرض ازدحاماً بالسكان.‏