نقولا تويني*علمت أن حسابات القطاع العام (بما عدا الديون المتراكمة) في الجمهورية اللبنانية، متوازنة. فالإيرادات تعادل الإنفاق. وعلمت أيضاً أن هنالك عدداً كبيراً من البلديات، بما فيها بلدية بيروت (هذه المدينة العاصمة المأزومة)، لديها فائض من الاموال في البنوك، وأن إيراداتها تفوق إنفاقاتها فضلاً عن إيرادات لم تحصل من وزارة الاتصالات. وتابعت تجربة بلدية جبيل وبلدية ضهور الشوير (للمثال لا الحصر)، والتجربتان ناجحتان إلى أقصى الحدود بالمقياس النسبي والكلي... مياه، كهرباء، نفايات، جمالية المدينة.

تابعت مؤخراً موضوع النفايات في مدينة بيروت وموضوع الشركة الشهيرة المدللة الحائزة العطف والرضى منذ سنين، وموضوع مناقصات النفايات الاخيرة وفتح المظاريف والاسعار.
ويذكرني القطاع الخاص في لبنان بالقطاع الخاص في ما بعد عهد الرئيس الراحل أنور السادات في مصر بما سمي ببورجوازية الدولة من حيث عدم إمكانية فئة المتمولين الاجتماعية في ما تقدم عليه من مشاريع العمل والانجاز من دون مساعدة حميدة من أجهزة الدولة ولا يعوم، هذا القطاع الخاص المدعوم، إلا في مياه الدولة الاليفة والدافئة. هذا لا يعني بالطبع أن جميع أفراد ومؤسسات القطاع الخاص في لبنان فاشلة، هنالك نجاحات صناعية وإنشائية رائدة، ليس فقط في لبنان بل في العالم. وبالمناسبة أحيّي هذه المناقصات عن طريق كسر الاحتكار.
أعني القطاع الخاص الذي وُلد واندمج في الدولة السياسية وأجهزتها ومؤسساتها الرسمية أو شبه الرسمية، فتآلف معها وكسب عطفها ورعاية مسؤوليها، فترى هذا القطاع اعتاد مودّة ومساندة الحكم، فضلاً عن النفعية وتوزيع الحصص، فتراه قطاعاً لم يتعلم العوم في المياه الحرة بل ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالاجهزة والقوانين. ونعلم جميعاً أن 16% من الدخل القومي اللبناني يأتي من خلال الاحتكارات والحصرية، كذلك حصريات التعامل مع الدولة بالانفراد مهما تم تمويه المواضيع من مناقصات حرة أو مناقصات التراضي التي كثرت في الايام الاخيرة.
كان يقول النتورين عند زيارته للزعيم كمال جنبلاط، أثناء بدايات الحرب الاهلية، إن المشكلة الاساسية في لبنان هي عدم تكوين طبقة رأسمالية عابرة للطوائف والمناطق والمحسوبيات، تبني الوطن والاقتصاد وتحمي الحدود حول مشروع اقتصادي اجتماعي وطني توحيدي مؤسس.
عجز القطاع الخاص في لبنان عن امتحان دخول الرأسمالية الغربية الانتاجية وتوغّل في زواريب الكسب الريعي المشروع منه من عدمه على درب بورجوازيات الدول والانظمة العربية. وفي المقابل تفوّقت أجهزة الدولة العميقة من بلديات وإدارات الدولة التي تُشتم كل يوم من قبل المواطنين عليه بسهولة فائقة. ففشل القطاع الخاص هذا أودى بما تبقى من أمل معقود من الاقتصاديين الليبراليين على القطاع الخاص، وهم يأملون تخصيص الكهرباء والمياه والاتصالات وبيعها للقطاع الخاص لقاء الوعد بحسن التشغيل والربح الوفير وتحسين الادارة والخدمات عبر هذا التخصيص.
فتجربة النفايات والنفعيات المتراكمة موزعة أو محتكرة، أثبتت أن أنانية فريق أغنياء الظروف والحروب والريع لن تولد الابل منها، ولن يحصدوا من حيث لا يزرعون إلا المساءلة القانونية العتيدة إن شاء الله... والامل في الدولة مهما تقلصت، فهي تبقى أفضل خيار لنا على درب كسر الاحتكار وإرساء المناقصات الشفافة ورقابة ديوان المحاسبة المركزي وكسر الاحتكار وتفعيل قانون من أين لك هذا...
هذه الليالي التي نمر بها هي ختام مرحلة اقتصادية واجتماعية ظلامية عاشها لبنان ما بعد الحرب ليت بزوغ الفجر العتيد.
* رئيس تجمع عائلات بيروت