تثير الحالة العونية دائماً الأسئلة عن أسباب تجذرها بعد كل امتحان تثبت فيه قوتها، غالباً ما يعقب فترة من المراهنات على تراجعها وموتها. ليست المرة الأولى. منذ التسعينيات روجت السلطة القائمة آنذاك لمقولة «عونيون بلا عون»، وبعد انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية عام 1998، راهن كثر على أن «العونية» ستتراجع على اعتبار أن الرئيس الجديد آت على صهوة «الأحلام المسيحية» باستعادة الدور والتوازن. كذلك بعد فترة من عقد التفاهم مع حزب الله وانتخابات عام 2009 وغيرها...
تبقى كاريزما قائدها وصدقيته لدى مؤيديه أبرز الأسباب التي تصنع قوتها واستمراريتها. واجه العماد ميشال عون الطائف وتداعياته حين روج أركان السلطة القائمة والطبقة السياسية أنه الحل المنتظر وباب الخلاص. وظهر لاحقاً أن ما بدأته منظومة الطائف على الصعيد السياسي من تصفية للقيادات المعارضة للوضع القائم آنذاك وأكل أولادها، استكمل أيضاً بسيطرة اقتصادية ومالية وضعت اللبنانيين في قعر الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية.
وعندما كان يروج لحلول جزئية وتفاهمات مع الوضع القائم آنذاك، كان عون يتمسك بالجوهري وهو تحقيق الانسحاب السوري وحرية القرار اللبناني من أجل مواجهة التحديات الأخرى. وفيما كانت الطبقة السياسية اللبنانية تلعب لعبة الروليت الروسية مع النظام السوري على عتبة تغيرات إقليمية مقلقة بعد تفاهم النورماندي الشهير، طرح زعيم التيار الوطني الحر مبادرة قد تكون من أقوى خطواته الاستشرافية من قصر المؤتمرات في باريس في 21 تشرين الثاني 2004 وخلاصتها عقد تفاهم لبناني ــ لبناني ولبناني ــ سوري لمواجهة العواصف المحتملة، فأضيفت خطواته ومواقفه إلى سجله وكشفت قصر نظر من ربط سيادة لبنان باللعب على أوتار السياسة الداخلية في سوريا.
هناك أكثر من ذلك. إن القوة الجوهرية للظاهرة أو الحالة العونية، تبقى في استجابتها لتطلعات وتحولات عميقة في وجدان شرائح كبيرة من اللبنانيين. لم يكن صدفةً أنها ظهرت في عام 1988 على أنقاض تشوهات الحرب في فترة وصلت فيها المشاريع السياسية للأطراف المتحاربة إلى المأزق، وظهر فيها التواطؤ بين القوى الدولية والإقليمية في شكل فاضح، كذلك في وقت أبرز المجتمع اللبناني والطبقة الوسطى فيه التوق إلى كسر الحواجز المصطنعة من خلال تظاهرات المعابر وغيرها. الأهم، أن الطبقة السياسية في مجملها، وإزاء ما يقدمه ميشال عون من نموذج للجمع بين الاستقلال الوطني ومواجهة تركيبة داخلية تقوم على الإقطاع المذهبي والمالي والسياسي وتجويف الدولة، تتعرى وتفشل في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية.
اليوم، في وقت تواصل فيه طبقة الميليشيات والمال ما بدأته في الطائف، تبقى الحالة العونية القوة الأبرز في مواجهتها. على أنها تقف أمام تحديين رئيسيين: الحفاظ على صورتها كنموذج نضالي، وإعادة استقطاب شرائح ونخب ابتعدت عنها لأسباب كثيرة وتحاول أن تجد البديل في مكان آخر.