«هل أنت ضد القرف؟» سؤالٌ يصعب الجواب عنه إلا بالإيجاب. وهذا هو المنطق التي تنطلق منه حملة "بيروت مدينتي" الإنتخابية للمنافسة على المجلس البلدي في العاصمة اللبنانية. الحاجة والسعي إلى بديل أفضل للوضع القائم هما أساس تقدّم وتطوّر الشعوب، وهذا لا ينتفي حتى لو لم نكن نعيش حالة قرف. لكن هذه الحاجة وحدها، التي يعبّر عنها الناس تكراراً حين يعانون "القرف"، غالباً لا تترجم أصواتاً في صناديق الإقتراع. القرف وحده لا يكفي للتغيير، وهذه الحالة ليست فريدة أو خاصة بلبنان، ولكن في لبنان تحديداً تُلقى الملامة على بعبع الطائفية: هذا العدو الدائم لطموحات الشعب، الذي يكتسح الإنتخابات الديمقراطية على المستوى الجامعي والنقابي والبلدي والبرلماني. ليس بإمكاننا شمل المستوى الرئاسي هنا لأنه لا يتاح للشعب اللبناني إنتخاب رؤسائه باقتراع شعبي - فلا نريد الإفراط بالديمقراطية - حتى لو أنتج النظام الحالي شغوراً رئاسياً طويل الأمد يطرح تساؤلات عن جدوى وظيفة رئيس الجمهورية أصلاً. لماذا لا يكون المخرج لأزمة شغور رئاسة الجمهورية بانتخاب مباشر، وأن يُجبر المرشحون على إستقطاب الأصوات في عرسال والناقورة وراشيا وحلبا بدل من باريس والرياض والواشنطن وطهران والدوحة «أجلّكم»؟ السؤال هذا لا يخصّ حملة "بيروت مدينتي"، بل هو لطرح أن الأمور التي تبدو بديهية، والأسئلة التي يكون جوابها سهلاً، غالباً ما تتجاهل العوامل الحقيقية التي تتحكم في السياسة.
ارتأت «بيروت مدينتي» أن المدخل للتغيير يكون من خلال إنتخابات بلدية بيروت لكونها «السلطة المحلية التي تمثّل أهل المدينة وسكانها»، وهنا تكمن الثغرة الكبرى الأولى في أسس الحملة. يذكر البرنامج الإنتخابي للحملة البديلة والخارجة عن الاصطفافات السياسية ــ وتزهو الحملة بأنها صاغت برنامجاً إنتخابياً ــ عبارة «أهل المدينة وسكانها» عرضياً عدة مرات من دون التوقف عند ما تعنيه هذه العبارة ومن دون التوقف عند الفرق بين «أهل المدينة» و«سكانها»، رغم أن هذا التمييز هو أصل الخلل في العملية الديمقراطية على مستوى البلديات. «أهل المدينة» غير «سكانها». فأهلها يحق لهم التصويت في الإنتخابات البلدية حتى لو أتي بهم بالطائرات من البلاد العربية والغربية حيث يمكثون. أما سكانها فلا صوت لهم، حتى للّبنانيين منهم منذ أكثر من عشر سنوات. لا يحق لـ«سكانها»، الذين يمثّلون أضعاف اعداد «أهل المدينة»، المشاركة في انتخاب المجلس البلدي الذي يجبي الضرائب والرسوم منهم. لكن يبدو أن «بيروت مدينتي» لم ترد إستفزاز "أهل بيروت" فتغاضت عن هذا الخلل الديمقراطي الفاضح وقررت التوجه نحو الناخب، أي أهل بيروت دون سكانها إلا إن أراد السكان التطوّع أو التبرع للحملة التي ستمثلهم.
حسناً، هذه خطوة براغماتية. فقوانين اللعبة موجودة ولا وقت لتغييرها الآن. الخطاب الموجه لأهل مدينتي يحدد أبرز إشكاليات المدينة من القدرة على تحمّل النفقات المعيشية إلى تنظيم النقل وإدارة النفايات وتحسين نوعية الهواء وزيادة المساحات الخضراء وتحقيق حكم محلي سليم. كلها مواضيع لا خلافية بل بديهية في إدارة المدن. طبعا في بلد كلبنان قد تبدو الأمور البديهية طروحات ثورية نظراً للركود السياسي والتردّي الملموس في الظروف المعيشية نتيجة سياسات متبعة منذ عقود، لكن النفقات المعيشية هي نتيجة مباشرة للسياسة الإقتصادية ولا يمكن التصالح مع السياسة الإقتصادية على المستوى الحكومي، والتوقع أن تقديم محفزات إضافية لشركات العقارات على المستوى البلدي سيغير من نمط البناء؛ كأن ما ينقص شركات تطوير العقارات وممولي مشاريعهم هو المحفزات الإضافية. إغفال العامل الإقتصادي يتجاهل الحافز الأهم الذي يدفع بالناس إلى صناديق الإقتراع: الثورة النيوليبرالية التي مكّنت تيار المستقبل وحلفاءه من إحكام سيطرتهم على إقتصاد بيروت، جعلت كتلة كبيرة من الناخبين في حالة ارتباط عضوي بالمنظومة الحاكمة؛ من موظفي الدولة إلى موظفي القطاع الخاص، وخاصة المصارف، وحتى موظفي الشتات الذين يهدَّدون اليوم بلقمة عيشهم في الجزيرة العربية. المحفزات التي قُدِّمت للأوليغاركية القائمة عقب الطائف كانت بالمليارات من أرباح الفوائد والحسومات الضريبية، فما هو "المحفز" الذي في وسع البلدية تقديمه لهؤلاء الذين تريد مهادنتهم وعدم استفزازهم؟ الناخب لا يصوّت للحريري لأنه سني حصراً، ولا لأنه "سيكسي". ولن يصوت لبديله للأسباب نفسها. فهناك من هو "أكثر سنّية" من تيار المستقبل ــ وهو الغريم الإنتخابي الرئيسي في بيروت حتى إشعار آخر ــ وهو لم يفلح في انتزاع الأصوات منه، ولن تنفع جاذبية لائحة من الناس "الحلوين والمهضومين" في كسر العامل الإقتصادي في التصويت، من دون مواجهة النظام القائم.

لا أعداء ولا أصدقاء

إذا، «بيروت مدينتي» لا تريد مواجهة "المستقبل" وحلفائه أو استفزاز كتلته الناخبة، فهي تستهدف الناخب "القرفان" الذي يشبهها. فلا نفع من استدعاء العداوة مع قوى النظام، وقد تكون استراتيجية بناء قوة موازية ومنافسة لا تثير مخاوف النظام هي الأنسب للفوز. هذا يعني أن هناك كتلة كبيرة، لم تنخرط في العملية الانتخابية سابقاً، قد تهتم بالانتخابات فجأة لأنها رأت في البرنامج الانتخابي أو الحملة التسويقية له ما يثير حماستها. بالفعل، تثبت الأرقام الإنتخابية أن هذه الفئة الصامتة موجودة، وهناك أمثلة عن نجاح بعض الحركات في محيطنا المتوسطي في الصعود السريع إلى الحكم أو إلى خلق كتلة وازنة تؤثر في الحكم من خلال تشجيع هذه الفئة على ممارسة حقها الديمقراطي. وهنا نتكلم عن "سيريزا" في اليونان، و"پوديموس" في اسبانيا، وهما حركتان يساريتان لا تخجلان بيساريتهما. وهناك حاليا صعود بارز لحركات مستحدثة لا تخجل بيمينيتها المنفّرة في شمال القارة، إثر حركات النزوح نحو أوروبا لضحايا الحروب، العسكرية والاقتصادية منها، ونسبة الأخيرين تفوق نسبة النازحين من مناطق الصراع المسلح.
لكن «بيروت مدينتي» لا تريد الإنخراط في السياسة. فهي تريد تجييش الكتلة الخامدة من الناخبين عبر برنامج من «أفضل الممارسات» في «الحوكمة». هذه المصطلحات غزت قاموسنا ترجمةً للغة المنظمات الدولية التي انتشرت بعد الحرب الباردة لتروّج لثقافة ما بعد الايديولوجية، وإلهاء نخب دول الجنوب عن افكار ثورية قد تؤثر في الهيمنة العالمية للإيديولوجية النيوليبرالية.
الأفكار المطروحة بديهية بل جذابة في مكان كبيروت. لكن هذه اللغة لا تلقى أي صدىً مع أهل بيروت ولا سكانها إلا مع النخبة التي لوّثتها سوسة المنظمات الدولية والتي هي كبيرة نسبيا في بيروت. ولكنها رغم ذلك ــ بالمعنى السياسي ــ "لا تهش ولا تنش": هذه الثقافة تمجّد الاستقلالية وعدم الاصطفاف والاعتدال واللاعنف وسياسة النظافة والبراءة والمساحات الخضراء وأي شيء لا يمسّ بالنظام ومصالحه على أي مستوى كان. ومن هنا ينتج الإفراط في الأمل على حساب العمل الذي تظهره «بيروت مدينتي» وغيرها من الحملات التي تنتج من "القرف" الذي تعانيه النخبة. لكن هذا البديل البليد يفشل حتما في التغيير لأنه ــ بكل بساطة ــ لا يمكنك التذاكي على النظام السياسي و"التسلل" إليه من دون ممارسة السياسة. إذا أخرجت السياسة من المعادلة تصبح الحملة الإنتخابية حملة تسويقية لأفراد. والناس لا ينتخبون الفرد لـ«عيونه». في بعض الحالات قد تلفت حملات كهذه نظر بعض المصالح في النظام إلى بعض الأفراد الذين قد يُستَقطبونه لمكافحة الإهتراء فيه. فالنظام في لبنان يعاني الاهتراء لكن لن يكون التغيير عبر انتهاز فرصة "لن تتكرر" والتلويح بـ"الأمل الأخير". إستسهال التغيير و"الزوربة" للتهرب من التحديات السياسية يولد الإحباط لحظة الفشل المحتوم، ويقدم خدمة مجانية للنظام لأن يتجدد وبنسخة أكثر قرفا. إدمان الفشل لا الحل.
الأمل دائماً موجود وليس حكراً على أحد. لكن التغيير لن يأتي من نخبة تستفيد من نظامٍ قائمٍ ولا تريد المخاطرة بمكتسباتها، حتى لو علا منسوب القرف لديها. هم قد تزعجهم رائحة النفايات أو انقطاع الكهرباء، ويوهمهم ذلك بأنهم يختبرون نفس معاناة أكثرية الشعب. وهذا الوهم هو ما يجعلهم يظنون أن برنامجا إنتخابيا متعاليا ومليئاً بالنقاط اللا خلافية كافٍ لأن يأتي الجمهور مهرولا إلى "مساحات النقاش" حيث الحجة الذكية والعلمية وحيث يتطوع "الخبراء" بخبراتهم لخدمة الشعب. وهنا تبرز ياءُ الأنا في «مدينتي». أحد أهم إنجازات العولمة النيوليبرالية هو إغراء النخب بالنجاح الفردي ودفعها نحو الخيارات الأنانية المربحة ماديا، على حساب العمل السياسي الجماعي والتضحيات التي يتطلبها. أن ترتأي لنفسك الفردية الأنانية فهذا شأنك، لكن أن تقنع نفسك بأن الفقاعة التي اخترت أن تتقوقع فيها تختصر العالم وشعوبه فهذا عارض مرضي.