مقالات مرتبطة
-
عاد إلى فلسطين بسام القنطار
كاد يطيح عملية التبادل
لأن الاسرائيليين أتوا له بسراويل تشبه ثياب راقصي الباليه
توجّه إلى فلسطين في نيسان 1979، قائداً لعملية تهدف إلى أسر جنود إسرائيليين بهدف مبادلتهم. حفظ جيداً الثياب التي ارتداها ذلك اليوم، «جاكيت خضراء قصيرة وقميص بيج ضيّق وبنطلون أخضر تشارلستون»، حتى بدا فتى «يستعد لموعده الأول مع فتاة أحلامه». وبقي يهتم بثيابه، حتى في أحلك الظروف. كاد يطيح عملية التبادل، لأن الاسرائيليين أتوا له في اليوم الأخير من سجنه بسراويل تشبه ثياب راقصي الباليه. قال لسجّانه «أمضيتُ ثلاثين سنة في السجن محافظاً على كرامتي ولن أسمح لكم في آخر نصف ساعة لي في السجن بإهانتي». كذلك طلب أكثر من مرة من المنسّق الذي كان يتواصل معه في السجن، عبر هاتف سري، أن يجهزوا له ثياباً عسكرية يرتديها فور وصوله إلى الأراضي اللبنانية، محرّراً في 16 تموز 2008. حتى إن المنسّق نقل له تعليق السيد حسن نصرالله على طلبه المتكرّر: «لكثرة ما سألت السيّد عن موضوع الثياب العسكرية ملّ وقال، لو لم يكن سمير عنيداً هذا العناد لما بقي حياً ثلاثين سنة في السجن والتعذيب ومواجهة العدو».
عناده هذا، صنع يديه. هو من ربّاه كما يقول، أو كما اكتشف عندما تلقى في عام 1981 رسالة متأخرة من والده عاماً كاملاً. أخبره فيها أن شقيقته سناء توفيت بسكتة دماغية «ما أقساني. كنت أشعر بحبّها، تبكي لفراقي، وكلما عدت إلى البيت رجوني ألا أغادر. وأنا أبتسم وأحتضنها وأقبّلها وأعدها بالعودة (...). كيف ربّيت لعنادي وجهاً آخر، حداً آخر؟ ذروة القسوة في فراقها الآن، في اعتقادي أنني روّضت حبّها لي، وفي تجاهلي انعكاسات غيابي. لم أتخيّل للحظة أن قتالي ثم احتجازي سيسببان هذا. لم أتخيّل أن هذا يحصل مع البشر: أخت تموت لفراق شقيقها. كانت هذه قصة خيالية، مستحيلة واقعياً بالنسبة إليّ، وحصلت معي، ومع أختي».
وعناده هذا، جعله يخوض معارك كثيرة داخل السجن من أجل تحسين ظروف الاعتقال، وأبقاه على تماس مع ما يحصل خارج السجن، خصوصاً بعد انطلاق المقاومة اللبنانية في عام 1982 «التي أحضرت لبنان إلى مسمعي وعقلي ووجداني». قبل ذلك «كان مكاناً ولدت في جبله، ومعبراً نحو فلسطين. لكن منذ انطلقت المقاومة اللبنانية تغيّرت الصورة».
في عام 1999، وجد نفسه مجدداً «على عتبة لبنان»، عندما وصلت الدفعة الثانية من أسرى حزب الله إلى سجن نفحة، في إطار عقوبة لهم بعد اكتشاف خلية كانوا يشكلونها في سجن عسقلان. «شعوري بأنهم ليسوا متروكين مثلي، وبأن لديهم حزباً سياسياً يسعى لحريتهم طمأنني، جعلني كمن يدخل تحت غطاء في ليل بارد (...). وبما أنه لا مقاومة في لبنان إلا مقاومة حزب الله، وأيّاً منا لن يخرج من هنا إلا بعملية تبادل تنجزها المقاومة الإسلامية، باتت قضيتنا واحدة».
وبالفعل، لم تخيّب المقاومة أمل القنطار، ونفّذ مجاهدوها في 12 تموز 2006 عملية أسر لجنود إسرائيليين بهدف إجراء عملية تبادل كان هو عنوانها الأبرز. وبعد حرب استمرّت 33 يوماً، لم تستطع أن تحقق فيها شيئاً من أهدافها، وافقت الحكومة الاسرائيلية بعد عامين على عملية تبادل تطلق فيها سمير القنطار، وخمسة من المقاومين، إضافة إلى جثامين مقاومين عرب ولبنانيين. هكذا، أقفل سمير في 16 تموز 2008 الباب على زنزانته في القسم رقم 3 من سجن هداريم، بعدما أمضى يومه الـ10678 والأخير في الزنازين الاسرائيلية. وبعد ساعات فقط، كان يعلن من الضاحية الجنوبية لبيروت أنه لم يخرج من فلسطين إلا ليعود إليها.
لذلك، كانت التهديدات الاسرائيلية تلاحقه، وكان يأخذها على محمل الجد، من دون أن يعني هذا خوفاً منها، كما قال لـ«الأخبار» في مقابلته الأولى مع الصحافة بعد تحريره. وقد بقي القنطار تحت الضوء بعد الإفراج عنه، فواكبت وسائل الإعلام أخبار زواجه من الإعلامية زينب برجاوي، وولادة طفله علي. كذلك غطّت نشاطاته الداعمة للمقاومة الفلسطينية، في ظلّ استمرار نشر أخبار عن عودته إلى العمل المقاوم. وقد انتشر اسمه بين شهداء الغارة الاسرائيلية التي استهدفت موكباً للمقاومة الإسلامية في 18 كانون الثاني 2015، في منطقة القنيطرة السورية، ثم جرى تكذيب الخبر لاحقاً.
أمس، لم يكن هناك متّسع لتكذيب الخبر. على بعد أمتار من الجولان السوري المحتلّ، كان القنطار يتابع مهمته قبل أن تغتاله آلة القتل الاسرائيلية، من دون أن تتبنّى ذلك. اكتفى ساستها بالشماتة، معتبرين أن «من الأمور الطيبة أن أشخاصاً مثل سمير القنطار لن يكونوا جزءاً من عالمنا».
كلام يسرّ كلّ من يسمعه، لأن سمير القنطار لا يمكنه إلا أن يكون جزءاً من عالمنا نحن. نحن الذين تخيّلناه أمس مبتسماً، كما كان في نيسان 1979، لأنه في طريقه إلى حبيبة قلبه، فلسطين. هذا البلد الذي تعلّقت به مشاعر الملايين، وشكّل وجدانهم، وكان موقفهم منه شاهداً على إنسانيتهم. يكونون إلى جانبه، أو لا يكونون. يكونون في مواجهة إسرائيل، أو لا يكونون.