سمير القنطار شهيداً: الحساب المفتوح | ـــــ «لماذا اخترت جرمانا؟»
ـــــ «لأنها قريبة وبعيدة عن الجولان. مكتظة وهادئة في نفس الوقت، وأستطيع فيها أن أبني «عصباً» للمقاومة، لا أعلم... لكنني أشعر بالأمان هنا».
في ذلك المساء البارد، في 2 كانون الأول 2013، كان سمير آتياً لتوّه من لبنان. ما إن دخل المقهى القريب من ساحة السيوف في ضاحية جرمانا في جنوب دمشق، حتى سارع النادل إلى إعداد «ركوة» القهوة للزبون الدائم وضيفه، قبل أن يختفي. المقهى فارغ إلّا من سمير و«يده اليمنى» (الشهيد، وابن بلدة حضر في الجولان المحرّر) موفّق بدرية الملقّب بـ «أبو عناد» وزائرهما، والساعة تقارب العاشرة ليلاً. نزع عنه «الجاكيت» الجلد السوداء، وهمس في أذن بدرية.
غاب أبو عناد لدقائق التزم فيها القنطار الصمت، وعاد بحقيبة يد سوداء، استل منها سمير خارطة جويّة للجولان السوري، المحرّر والمحتل، ووضعها نصف مطوية على الطاولة. اقترب الضيف، وحرّك سمير أصابعه على الخارطة محدّداً عدداً من المواقع الإسرائيلية، وقريتي مجدل شمس وعين قنيا المحتلتين. «هنا أرض خصبة للعمل، وجغرافيا صعبة أيضاً، لكننا سنبني جسماً للمقاومة، يؤلم إسرائيل كثيراً».
لم تمرّ أيام على اللقاء، حتى استهدفت المقاومة الوليدة دورية للاحتلال على حدود الجولان بعبوة ناسفة. ثمّ في آذار 2014، أطلقت المقاومة صلية صواريخ على موقع «مرصد جبل الشيخ» التابع لجيش الاحتلال، في وقت كان الدعم الإسرائيلي للجماعات الإرهابية في الجنوب السوري قد بدأ يظهر إلى العلن، من الذخيرة إلى المعلومات إلى علاج الجرحى في الداخل الفلسطيني المحتل. لم يمضِ الشهر السادس، حتى استهدفت طائرة من دون طيار «فان» أبو عناد يوم 17 حزيران في منطقة دورين على أوتوستراد القنيطرة ـــــ دمشق، فاستشهد أثناء نقله عدداً من صواريخ الكاتيوشا.
هنا أرض خصبة للعمل وسنبني جسماً للمقاومة يؤلم إسرائيل كثيراً

لم ييأس القنطار بعد اغتيال مساعده. استمر بناء الجسم من أبناء قرى الجولان، وبدأ يتزايد القلق الإسرائيلي، وبقيت جرمانا القاعدة الخلفية للعمل. كان الشهيد فرحان الشعلان (أبو سعيد) قائداً للدفاع الوطني في جرمانا، وسرعان ما حلّ أبو سعيد (مقاول البناء) مكان بدرية، مبتعداً عن العمل في الدفاع الوطني، وهو ابن بلدة عين قنيا المحتلة. في آب 2014، أطلقت المقاومة مجدداً صلية من الصواريخ على مواقع الاحتلال في الجولان.
يقول مصدر مقرّب من «المقاومة السورية» إن «إسرائيل في نهاية 2014 اتخذت قراراً بتصفية المقاومة السورية، ومنع تحويل جبهة الجولان إلى جبهة استنزاف، كذلك زادت من وتيرة دعمها للجماعات الإرهابية بغية سيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من الشريط الحدودي مع الجولان المحتل». ويضيف «بقيت بلدة حَضَر والجزء الشمالي من القنيطرة ساحة لعمل المقاومة وعصيّة أمام محاولات الإرهابيين للسيطرة عليها».
في 18 كانون الثاني 2015، استغلت إسرائيل قيام مجموعة من كوادر المقاومة بجولة على قرى جبل الشيخ وبلدة حضر، فقصفت سيارتين تقلان ستة كوادر في المقاومة بينهم الشهيد جهاد عماد مغنية والشهيد محمد عيسى وضابط رفيع في الحرس الثوري الإيراني، لتقضي على مجموعة من الضباط ترتبط بشكل أو بآخر بالمقاومة السورية. لم يتأخر ردّ المقاومة كما وعد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، لكنّ الردّ أتى هذه المرّة في مزارع شبعا، فاستهدفت المقاومة بعد ثلاثة أيام دورية لجيش الاحتلال قُتل فيها عددٌ من جنود الاحتلال.
وفي نهاية شهر نيسان، كشفت إسرائيل تسلّل أربعة مقاومين بغية زرع عبوات ناسفة قرب الشريط الشائك في منطقة سحيتا بين مجدل شمس ومسعدة المحتلتين، فأطلقت طائرة من دون طيار صواريخها باتجاه المجموعة، ليستشهد يوسف جبر حسون وسميح عبدالله بدرية (من أبناء حضر)، والأخوين نزيه وثائر وليد ‏محمود (من مجدل شمس، سكّان حضر).
وعلى الرغم من الضربات القاسية، استمرت المقاومة في العمل، واستمر القنطار في تجنيد الرجال، إلّا أن إسرائيل استهدفت مجدّداً في تموز سيارةً تقلّ ثلاثة مقاومين مجدداً: وسيم عادل بدرية، ونادر جميل الطويل ومهند سعيد بركة.
بين مساء الجمعة وصباح السبت الماضي، وصل القنطار إلى سوريا آتياً من لبنان. لم يكن قد زار شقّة معاونه اللّصيق فرحان الشعلان في حي الحمصي على أطراف ضاحية جرمانا منذ شهرين. البناء مؤلّف من خمسة طوابق، وينقسم إلى قسمين. القسم الجنوبي الذي تقع فيه شقة أبو سعيد في الطابق الثاني يطل على طريق مطار دمشق الدولي وتفصلها عنه مجموعة من المزارع ومساحة مكشوفة. الطابقان الأخيرين لصاحب البناء، والطابق الثالث فارغ، وقُدِّرَ لسكان الطابق الأول أن لا يكونوا في المنزل عند الساعة العاشرة والربع من ليل السبت. كان سمير قد أمضى حوالي 12 ساعة مع الشعلان ومرافقه تيسير نعسو، قبل أن تصيب المبنى أربعة صواريخ إسرائيلية أطلقتها طائرات من فوق بحيرة طبريا في الجولان المحتل. الصواريخ أصابت هدفها بدقة. انهار القسم الجنوبي من المبنى كاملاً، ولم تصب المباني المجاورة بأي أذىً. تسببت الغارة في استشهاد الثلاثة، القنطار والشعلان ونعسو، وأصيب أكثر من 20 جريحاً.
الرابعة من عصر أمس، كان عمّال المحافظة يعملون على اسقاط السقوف المنهارة من البناء خشية انهيارها لاحقاً. تجمهر الأهالي لمشاهدة «الدمار الرهيب». يروي جندي في الحرس الجمهوري السوري، نقطة خدمته على مقربة من البناء، لـ«الأخبار» كيف سارع مع رفاقه لاستطلاع ما حصل، وسط ذهولٍ من هول الصوت وعزم التفجير. ما إن تلاشى الغبار حتى بدأ ورفاقه مع الهلال الأحمر والدفاع المدني السوري العمل على سحب الضحايا من بين الأنقاض. جثث الشهداء كانت قريبة بين الركام تحت سقف الطابق الثاني المنهار. شاهد الجنود بعيونهم بقايا مائدة الطعام التي جمعت الرجال الثلاثة. كان ذلك العشاء الأخير.

إسرائيل متضررة من «نصر» سوريا السياسي
ترجّح مصادر أمنية معنية أن تكون الطائرات السورية قد أطلقت قنابل من نوع «spice 250» وهي قنابل صناعة إسرائيلية، ذكية ودقيقة التوجيه، يصل مداها حتى 110 كلم. وتتمتع هذه القذائف بدقة إصابة تصل حتى ثلاثة أمتار، وتستخدم مزيجاً من تقنيات التوجيه يشمل الأقمار الصناعية، أو التوجيه التلفزيوني، عبر تزويد القنبلة بصوة الهدف قبل إطلاقها. ويبلغ وزن الرأس الحربي للقنبلة نحو 80 كلغ.
ومع أن القنطار كان قد عدّل كثيراً في إجراءاته الأمنية في الآونة الأخيرة، إلّا أن مصادر أمنية معنية لا تصنّف حي الحمصي في جرمانا من ضمن «الدائرة الآمنة». وتقول المصادر إن «الكثافة السكانية في جرمانا باتت مرتفعة للغاية بحيث يناهز عدد السكان حوالي مليوني شخص، ووجود عددٍ لا بأس به من الخلايا النائمة التي تسربت مؤخراً بعد الهدنة في حي برزة». ويلخّص أكثر من مصدر سياسي وأمني سوري استهداف القنطار بجملة ملاحظات: أولاً، «لا تناسب إسرائيل الخلاصة العامة التي خرج بها قرار مجلس الأمن الأخير، والذي يثبت بقاء الدولة السورية والرئيس بشار الأسد، وبالتالي الاستمرار في النهج السياسي، وهي تسعى لحفظ مكانٍ لها في التسوية المقبلة، ونوع أوراق القوة من سوريا، لا سيما ورقة المقاومة في الجولان». ويقول المصدر إن «إسرائيل أرادت توجيه رسالة عسكرية عن قدرتها الصاروخية». ولكنّ المصادر تشير إلى أن «إسرائيل تستفيد من بعض الثغرات في القرار، ومن الغطاء الذي منحها إياه ما يسمى بالتحالف الإسلامي الذي تقوده السعودية والذي يدّعى مكافحة الإرهاب، ولا ننسى أن أميركا وضعت الشهيد سمير القنطار على لائحة الإرهاب في أيلول الماضي». وتتوقّع المصادر أن «يستمر مصدر الاستهداف لكلّ ما يمتّ للمقاومة بصلة تحت حجّة محاربة الإرهاب، واستهداف عددٍ من التنظيمات الموالية لسوريا والمقاومة»، مشيرةً إلى أن «الاستخبارات الإسرائيلية باتت تنشط بشكل كبير على الأراضي السورية، وتنفّذ عمليات اغتيال لضباط في الجيش ولقادة في المقاومة الفلسطينية، وآخرهم القنطار». وأخيراً، تقول المصادر إن «اغتيال القنطار يقع في صلب الصراع على الجولان وعلى إصرار الدولة السورية لاستعادة كل الأراضي المحتلة، سواء من قبل الإرهابيين أو من قبل إسرائيل». وتختم مصادر مقرّبة من المقاومة السورية بالقول: «اغتيال القادة لا يوقف المقاومة ولم يوقفها في السابق، بل يُسعّرها».




من عين قنيا إلى جرمانا: الجولان عربي سوري


على أكتاف رفاقه، تنقّل جثمان الشهيد المقاوم فرحان الشعلان (أبو سعيد) في مراسم تشييعه ظهر أمس في مجلس بلدة جرمانا للموحّدين الدروز، بمشاركة الآلاف من أهالي المنطقة وحشد من العسكريين والمقاتلين، قبل أن يدفن في مدافن جرمانا. والشهيد من أبناء بلدة عين قنيا في الجولان السوري المحتل، ومن نازحي الجولان إلى جرمانا في العام 1967، وهو من مواليد العام 1966، متأهل وله ولدان، أكبرهما سعيد (19 عاماً). عمل الشهيد في مقاولات البناء حتى بدء الأزمة السورية، ونشط في قوات الدفاع الوطني الموالية للجيش السوري، قبل أن يتولّى قيادة هذه القوات في جرمانا في العام 2013. لكنّه انتقل للعمل في صفوف المقاومة السورية بعدها، وكان الذراع اليمنى للشهيد سمير القنطار حتى تاريخ استشهاده أول من من أمس. وكان الشعلان قد أكّد في لقاء سابق مع «الأخبار» قبل نحو شهرين أن «أهالي قرى الجولان المحتل من النازحين والمقيمين يستشعرون بالنوايا الإسرائيلية المبيتة تجاه قراهم، وهم ينخرطون في صفوف المقاومة عن وعي واصرار»، وأنه «مهما طال الزمن، سيبقى الجولان عربياً سورياُ».