شهيداً، حُمل هذه المرّة، عميد الأسرى، سمير القنطار على أكفّ محبّيه. من عرفه ومن لم يعرفه. من سمع باسمه وحفظ صورته. من ذاق مرارة حرب تموز 2006، وحلاوة نصرها، حَضَر في تشييع الرجل الخمسيني. روحه الشّابة بعثت في المشيّعين روحاً وطمأنينة.
عبّدت النسوة الطريق إلى مثوى القنطار الأخير، بالأرُزِّ والورود. وعلى صخب الهتافات «الوداعية»، دَلَفَ النعش إلى مستقرّه.
الدموع كافية لتروي محبّة الناس لسمير. لرجلٍ رافقه الظل، في أسرِه، كما في حريّته. فقد حظي الشهيد يوم عودته، في تموّز عام 2008، بحفاوة ملتهبة، كسرت جليد ثلاثين عاماً من الأسر. وبعد سبع سنين، عادوا، صغاراً وشبّاناً وشيبة، رجالاً ونسوة، ليلقوا السلام الأخير على رجل أبى إلا أن يستمر في مقارعة الإحتلال، حتى نَفَسِه الأخير.
قبل بدء التشييع، وقف شابّان مقابل مدخل «حسينية الشهيدين». سأل أحدهما الآخر: «قولك لو استشهد بالمعركة ما كان أحسن؟». ينتفض صديقه: «لمّا الإسرائيلي بيقتل، هيك، يعني عارف منيح شو بدّو، وشو أهميتو للزلمة»، يجيب واثقاً. ويتابع: «عارف شو يعني مقاومة بالجولان؟... يعني متل السيطرة ع الجليل، تخيّل لو يصير هيك، شو بصير بإسرائيل؟».
الوداع الأخير يستوجب وقتاً أطول لقطع المسافة القصيرة للتشييع
اقتراب لحظة الوداع يقطع الحديث. «سريّة» من المقاومين تعاهد القنطار على مواصلة مسيرته، ليبدأ مسير التشييع. المسافة أقل من ألف متر. قصيرة نسبياً، لكنّه الوداع الأخير، يستوجب وقتاً أطول. هنا، على هذا الأسفلت مشى القنطار مودّعاً شهيد «منطقة الواجب الجهادي»، القنيطرة، جهاد عماد مغنية، قبل أحدى عشر شهراً. لعلّه أحسّ باقتراب اللحاق، آنذاك، بمغنية الإبن. كتب وصيّته، بعد حين (29 آذار 2015)، وأودعها أمانة بين يدي الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، والرئيس السوري بشار الأسد.
غطّت قبضات المشيّعين أعلام المقاومة وفلسطين ولبنان، وراية للحزب السوري القومي الإجتماعي. «الرادود»، يُلهب المشيّعين. يحثّهم على الهتاف. «ليسمع سمير... الموت لأمريكا... الموت لإسرائيل». تتثاقل الخطى، كلّما اقترب المشيّعون من «روضة الحوراء زينب».
«في أمان الله»، تنزل عبارات «الوداع» على قلوب الحاضرين، كالرذاذ. تبرّد قلوبهم، وتسعرها في آن. «في آمان الله»، يعيدها الراثي، ويصاحب الصوت الأيادي، تودّع القنطار، قبل أن يغيب عنهم، جسداً. تشقُّ الدموع طريقها على وجنات المشاركين. من المؤكّد أن الأغلبية لا يعرفون الشهيد معرفةً لصيقة، إلا أنّهم أحبّوا نُبل «عمله الجهادي»، وصلابة إرادته وعزمه. فالشهيد كان «قنطرة» للوصول إلى الجولان المحتل. روحه المعطاءة في السنوات الأخيرة، كفيلةٌ أن تجذب الحالمين بفلسطين، والعودة إليها، إلى تلك البقعة، في الضاحية الجنوبية.
استقر سمير، وارتاح، بعد طول نضال. بات معروف المكان، وسهل المقصد. جاهزٌ لإستقبال محبّيه، بعد أن احتجب عنهم، قسراً، ليحقق لهم حلم العودة إلى فلسطين وقدسها.
بعد أن فرغ الجميع، وتسلّلوا عائدين من التشييع، تجهّز عدد من الشبّان، لـ«الزيارة الأولى». ثبّتوا شموعهم بالقرب من ضريح «الحبيب». رائحة القدس عبقت بالمكان. فاحت، وملأت أركان «الروضة»، لتختلط مع رائحة ياسمين «الشام». فهناك، سمير إلى جانب العشرات، ممن سبقوه، يحرسون حلم «العودة»، إلى القدس والجليل، والجولان...