بلونة ــ رندلى جبورتجده مدنياً محرراً من البروتوكولات العسكرية ورسمية البذلة المرقّطة. كأن السنوات الأربع إلا نيفاً التي أمضاها قائد الاستخبارات العميد ريمون عازار في سجن رومية شكلت محطة انتقال في حياته، هو الذي قدّم استقالته من وظيفته العسكرية في بداية عام 2009 «لبلوغه السنّ القانونية»، وفق ما عزا السبب.
أيام «ما بعد الاعتقال» هي للاستقبال والوداع. والأكثر ولوجاً للقصر الفخم في بلونة الكسروانية هم حاملو «الرتب والنجوم والسيوف»، من دون أن يغيب السياسيون، وخصوصاً المعارضون ولا سيما من حزب الله وحركة أمل.
يجلس ريمون عازار في الصالون مع تغييرين في الشكل: فهو «ينفّخ» سيجارة كانت قبل السجن سيجاراً «يتسلى به طوال النهار»، كما تبدو خسارة الوزن واضحة بعدما أضاع 12 كيلوغراماً في «النكسة الصحية» التي أصابته في المرحلة الأولى من الاعتقال، فضّل بعدها الحفاظ على الوزن الحالي.
يومياته كانت «ظلماً وتعاسة»: هكذا يختصر العميد الركن سنوات السجن مع شطب السنة الأولى من ذاكرته من دون أن يتنبه إلى ذلك. فاكتفى بالإشارة إلى البداية الصعبة، «لكن، تآلفنا مع الواقع وأدرنا حياتنا على أمل التخلية السريعة». ويقفز ريمون عازار إلى الظروف السياسية التي فرضت الاحتجاز التعسفي، مؤكداً أن الجناة الحقيقيين سيُكشفون. ولكن كمدير للاستخبارات في الجيش اللبناني في عهد الاغتيال هل يعقل أن يغفل ريمون عازار عن الفاعلين؟ يرد: «كنا بدأنا التحقيق وتوصلنا إلى خيوط، لكن الظروف السياسية فرضت عليّ الاستقالة من وظيفتي، وسلمت كل ما توصلت إليه إلى القضاء المختص ولا أعرف هوية القتلة، وإلا لكنت أعلنت الأسماء بوضوح».
لم تكن هذه المعاناة الوحيدة، بل ضاق عازار أيضاً بالعزلة التامة وبمراقبة الأمنيين لزيارات العائلة والمحامين. أما أقسى ما تعرّف عليه في تلك المرحلة التي يريد تجاوزها «بالتسامح» فكان تذوّق الظلم. ويرفض «المظلوم» القول إنه كان ظالماً يوماً، مستعيناً بشهود من السلك العسكري أتوا لتهنئته.
يوميات السجن ما بعد آب 2007 توزعت على أربعة محاور رئيسة: زيارات العائلة والمحامين والقراءة ومشاهدة التلفزيون ومتابعة الإعلام المسموع والصلاة. وعلى رغم سواد المرحلة إلا أنها حملت جديداً في حياة ريمون عازار، فمارس الرياضة وتعمق في الثقافة العامة وفي الدين.
العميد الركن «المتقاعد» يحجز غده القريب لتمضية الوقت الأطول مع العائلة و«للعودة إلى الذات». أما الغد الأبعد «فستحدده المعطيات مع انتفاء احتمال العودة إلى الوظيفة العسكرية». ويبقى إمكان ممارسة السياسة محتملاً، ولكنها مرتبطة هي أيضاً بالظروف.
ولكن هل سيشهد ريمون عازار، من موسوعته الاستخبارية ملفات يشهرها في وجه من ساهم بضياع نحو أربع سنوات من حياته؟ يكتفي بالقول: «سامح الله، وكل شيء يُدرس في وقته».
«عجقة محبين» في منزل ريمون عازار تستقبلهم «مدام تيريز»، الزوجة التي لم تصدّق بعد ما حدث وتبدو فرحة بعودة الزوج الذي كانت تزوره يومياً لنصف ساعة في البداية ولربع ساعة في الفترة الأخيرة، فتبقيه في جو «خبريات العائلة اليومية». وعلى رغم المرارة التي عاشتها، فالزوجة لن تقف في وجه زوجها إذا ما اختار خوض الشأن العام في مرحلة لاحقة «وسأكون بجانبه مهما كان خياره».
المحاط بالأمن كسجين في الفترة السابقة عاد وأحيط اليوم بِأمن خاص يرافقه بصفته العسكرية، على الأقل في تلك المرحلة. ومن عاش في عزلة يتأخر عن موعد الغداء والعشاء بسبب الوفود التي تؤمّ دارته في حضور الأبناء والأحفاد الذين يجلسون في صالون آخر ليتسنى للضيوف محادثة عازار العائد من سجنه بالابتعاد عن العسكر، مع ما في جعبته من ملفات هذه المهنة وأسرارها.