أولى العمليات المعلَن عنها رسمياً للجيش التركي في سوريا، لها طابع رمزي: غزوة سليمان شاه، الجدّ الأسطوري البعيد للقبيلة العثمانية، المُدَّعى ضريحه في ريف حلب، في منطقة واقعة تحت سيطرة إرهابيي «داعش». لم يصطدم الجنود الأتراك، بالطبع، برفاقهم الدواعش، ولا هؤلاء ــــ الذين يكفّرون الأضرحة والمقامات، ويهدمونها بلا تمييز ــــ فكّروا بالمساس بضريح سليمان شاه، ولا باختطاف 40 جندياً تركياً يحرسونه، أو ذبحهم أو حرقهم؛ ولذلك، يمكننا أن نتساءل أين هي البطولة في عملية انقاذ رفاة الجدّ وحرّاسه، ولماذا الإعلان عنها، والتباهي بها؟
تؤشر غزوة سليمان باشا إلى ما يلي: أولا، الشروع، قريباً، في إعادة تأهيل القسم المتعاون مع الاستخبارات التركية من مقاتلي «داعش»، كـ «معتدلين» في إطار الاتفاقية الأميركية ــــ التركية، لتدريب «المعارضة السورية». وهو ما سيقود، حتماً، إلى صدام مع دواعش يتمردون على تلك الاتفاقية؛ ثانياً، الإعلان عن بدء التدخل العسكري التركي الصريح في سوريا؛ ثالثاً، الاعلان الرسمي عن سيطرة الجيش التركي على بلدة «أشمة» السورية، لنقل رفاة سليمان شاه إليها، وتشييد ضريح جديد له فيها؛ وهذه خطوة أولى باتجاه الشروع في احتلالات علنية؛ رابعاً، استخدام رفاة الجد الأسطوري ــــ على الطريقة الصهيونية ــــ لمنازعة السوريين على السيادة على مناطق تدعي أنقرة أن لها حقاًُ تاريخياً فيها.
الخطر التركي على سلامة ووحدة الأراضي السورية، أكبر، كثيراً، مما هو متداول في النقاش العام؛ ولعلنا نكشف ــــ قريباً، وبالوثائق ــــ عن معطيات تؤكد التوسع في منح الجنسية التركية لسوريين في مناطق محاذية للواء الاسكندرون المغتَصَب؛ ولا يمكننا إلا أن نرى في ذلك مسعىً تركيا لاغتصاب المزيد من الأرض العربية، بالقوة و»الاستفتاء»، وبالتعاون مع الغرب، كما حدث في الاسكندرون، العام 1939.
تُظهر تركيا الآن، بوضوح، أنها الفرع الأول من الكمّاشة المعادية لسوريا؛ الفرع الثاني هو الكيان الصهيوني. وقد كان الأمر كذلك دائماً، ومنذ العام 1882، حين سمحت «الدولة العلية» بهجرة اليهود إلى فلسطين، بالآلاف، ومنحهم الجنسية العثمانية.
المؤرّخة الأردنية، فدوى نصيرات، فككت، في بحث حديث لها، الأكذوبة القديمة حول موقف السلطان العثماني من المشروع الصهيوني؛ كان عبد الحميد الثاني، الذي طالما استقبل هيرتزل كصديق للسلطنة في الأعوام 1896 ــــ 1903، هو الذي منح الصهاينة كل ما يتطلعون إليه من هجرة شرعية، وجنسيات وتراخيص لبناء عشرات المستوطنات وتأسيس البنوك والشركات في فلسطين. بالطبع، كان حامي حمى الإسلام هذا، والمحتاج إلى أموال الصهاينة ودعمهم السياسي، مضطراً للمواءمة بين تنفيذ أي طلب صهيوني على أرض الواقع، والإدلاء بتصريحات معاكسة؛ أفليس هذا ما يفعله رجب أردوغان بالضبط؟ إن العلاقات التركية ــــ الإسرائيلية الآن، هي من الضخامة والعمق والتنوع، بحيث تفكّك الأكاذيب الأردوغانية بشأن الخلافات مع إسرائيل. ولكن العقل الطائفي العربي المتخشّب، ما يزال على ظلاميته منذ عبدالحميد!
في الواقع العياني، تقع سوريا بين كيانين رجعيين استعماريين، تركيا وإسرائيل، وهما القوتان الأساسيتان اللتان تشكلان خطراً جدياً على بلادنا، وتعملان من خلال تفاهم استراتيجي على تفكيك الجمهورية السورية، واغتصاب المزيد من أراضيها وثرواتها. أما السعودية وقطر، فلا دور، حقيقياً، لهما، سوى التمويل، ولا دور للنظام الأردني سوى تقديم الخدمات. أما الرابحون في النهاية، فهم الصهاينة والأتراك.
الجغرافيا السياسية ــــ التاريخية هي التي تحدد سياسات الدول؛ فلم تكن تركيا، لتكون، أصلاً، خارج مشروع همجي معاد للقوميات والأديان والمذاهب، المتآخية والشديدة التنوّع والتداخل، في المنطقة. وهذا المشروع، بالنسبة للكيان التركي حتى اليوم، ليس خياراً، بل هو الأساس الأيديولوجي لدولة سترتدّ، إذا انفصل عنها الأكراد والعرب والعلويين، إلى ما وراء الأناضول، أو تفقد، إذا ما تحولت، بالفعل، إلى دولة تعددية، مخالبها وهيمنتها. بالأساس، قامت الدولة العثمانية، وتوسعت، بوساطة مليشيات طائفية مذهبية بدوية اجرامية ــــ ليست «داعش» سوى محاكاة هزلية لها ــــ أخضعت، في تكوينها الأساسي المُسمّى تركيا، مناطقَ عربية وكردية وأرمنية وسلافية الخ، واستعمرت بلداناً حكمت عليها بالجمود التاريخي، واضطهدت المكونات الشيعية والاسماعيلية والعلوية والمسيحية واليزيدية الخ. وهي لم تتمكن من إعادة تركيب دولتها الحديثة، إلا بارتكاب جرائم ضد الانسانية، كمذابح السريان والأرمن، وتهجير اليونايين، واقتطاع الاسكندرون.
منذ أربع سنوات، تعمل تركيا الاخوانية الداعشية، على التمهيد لتكرار «دابق» جديدة؛ هكذا، لا تعود الحرب في سوريا، الآن، صداماً مع «المعارضة» أو حرباً ضد الإرهاب، وإنما هي حرب وطنية تاريخية في مواجهة تركيا وإسرائيل؛ ومَن لا يرى ذلك، يستحقّ وصفاً واحداً: خائن.