إلى أصحاب ابتسامات الرضى تلك التي لن أنساها ما حييت، وهم يعاينون دمار بيوتهم جراء العدوان الإسرائيلي ـــ الأميركي على لبنان في الصيف الماضي، والذي تحلّ ذكراه هذه الأيام. وقد كان رضىً مجبولاً بالاعتزاز بالقدرة على مقارعة جبروت «القوة التي لا تهزم» فهزموها تكراراً. وهو، ذاك الرضى، ما خاطب العالم كله وقتها فانتزع عجبه، وإعجاب بعضه، وهو، ذاك الرضى، أعمق تعبير عما يستبطنه الناس جميعاً في بلادنا من رغبة في تحقيق الذات، محبطة على الأغلب، فيذهب بعضهم مذهب التخلّي عنها، ويتمسك بها آخرون من دون دراية أحياناً بالوسائل. لعل تلك الوجوه الرضية قلقة اليوم، لعلها غلبت عليها مرارة تفلّت المعنى من سياقه...تتصارع على الساحة السياسية، كما في دواخل كل واحد منا، نزعتان. تقول إحداهما إن الخراب القائم هو من الاتساع والعمق بحيث لا جدوى. وتتدرج تلك اللاجدوى أشكالاً وألواناً، ابتداء من الدعوة الى التسليم التام للقوى المهيمنة، أميركا وإسرائيل، والأمل بأن ذلك يفتح الباب لطيّ صفحة ما نحن فيه. ويرى أصحاب هذا الرأي أن ترك الأمور لهما تتدبران المناسب، توكيلهما بنا، يسمح بإدراجنا الفوري والسلس في النظام العالمي وبالحصول على حصة من عوائده، الاقتصادية والمعنوية على السواء. وفي العمق، ذلك هو التطبيع وليس سواه. فإن استثنينا حفنة من العملاء بالمعنى المباشر للكلمة، ممن هم غير مهمومين بأي شيء سوى منافعهم الشخصية المباشرة، فإن سائر أصحاب هذا الموقف يعتدّون به كوجهة نظر، وهم محقون في ذلك. ويُفترض أن يُناقَشوا، وأن يبيّن من لا يوافقهم خطل رأيهم ولاواقعيته بناء على أسانيد منطقية وعملية، ذلك أن درجة الخراب الذي نحن فيه تبرر البحث عن كل المخارج، وهي لا تسمح بالاكتفاء بالاعتداد بالمرتكزات السابقة التي بُني عليها وعينا السياسي والاجتماعي، والاستمرار في معاملتها كبديهيات، لأنها أي تلك المرتكزات، إما أنها جزء من آليات الخراب نفسه أو أنها انهارت مع ما انهار. والنموذج الأفصح في هذا الباب هو أنور السادات الذي حطّ بطائرته في إسرائيل وعقد اتفاق كامب ديفيد وافتتح الحقبة الانفتاحية في مصر، ثم تلك القوى العديدة التي وافقت على خدمة الاحتلال الأميركي للعراق وقبله أفغانستان، وتلك التي تدعو الفلسطينيين للقبول بمشاريع السلام المعروضة عليهم، أكانت إدارات ذاتية لباندوستانات أم تخلّياً عن القدس وعن مبدأ حق العودة، تلك المنتقدة تمسُّك ياسر عرفات ببعض المبادئ التي منعته من الموافقة على مقترحات كلينتون ــــ باراك في كامب ديفيد الثاني، تلك التي اعتبرته فوّت الفرصة التاريخية. وتنتمي الى هذا الموقف الأصوات اللبنانية التي ترى أن البلد يمكنه أن يكون مزدهراً في ظل حماية أميركية موعودة تجعل منه، كما يأملون، واحة أعمال وتجارة وخدمات معولمة، تنجح بقدر ما تفكّ ارتباطها بقضايا المنطقة وتتحيّد عنها. وللحق، فذلك ليس موقفاً جديداً وليس فيه أدنى إبداع. فعدا النظريات التأسيسية للبنان، وهي أكثر ثراء بكثير من هذا التبسيط، التي تقوم على قاعدة توافق المكونات الداخلية على «دور» للبنان بل على لبنان دوراً ووظيفةً، (وسيطاً بين الداخل العربي والغرب، ملجأ ارتداد للأموال المهرّبـــــة من بلدان المنطقة عبر السرية المصرفية، هامشاً لحرية تقي من الاختناق التام، وتسمح ببلورة الجديد المعتمل، عبر التعليم والنشر...)، مما كان يستند الى إمكانية فعلية تعود الى طبيعة أوضاع المنطقة المحيطة به آنذاك وحاجاتها، فإن نموذجه الأصفى هو لجوء كميل شمعون، رئيس الجمهورية وقتها، حين اهتزّتْ تلك الأوضاع وعصفت بها رياح التغيير، إلى استدعاء الأسطول السادس الى شواطئ لبنان، ومحاولاته الدخول في «حلف بغداد»... يا ألله كيف الأسماء تتشابه والتاريخ يعيد نفسه، وإن على شكل مسخرة في المرة الثانية، كما قال ماركس.
ثم تلي تلك الدعوة دعوات لمقارعة هادئة لذلك الخراب، تتوسّل المواربة حين يكون ذلك ممكناً أو عقد تسويات مؤقتة، ترى القوى التي تنتهجها أنها ممكنة، وأنها قادرة على وقف الانحدار ريثما تُلتقط الأنفاس ويُبصر ضوء ما. ويبدو هذا الموقف أقرب الى إدارة الأزمة القائمة، وتُوجّه إليه انتقادات تخصّ فعاليته، وتشير الى أنه لا يؤدي الى غير إطالة أمد الحقبة الرمادية. ولعله يمكن اعتبار معظم القوى القائمة في المنطقة، تلك الممسكة بالسلطات هنا وهناك، وتلك العامة، منتمية الى هذا الموقف الذي يتلوّن ما بين انتظارية عاجزة، وبعض الديناميات الإصلاحية، تتوسطهما نظريات تبرير الاستبداد القائم بوصفه أفضل من الخراب التام، وبوصف زواله سيفتح الطريق أمام حلول ذلك الخراب التام. ومن المفيد القول هنا إن أصحاب الاستبداد قد عملوا كل ما في وسعهم لجعل الموقف يراوح بين استمرارهم وإلّا الفراغ الكامل، وذلك عبر السحق المنهجي والطويل للحياة السياسية والثقافية في البلدان التي استولوا عليها، والعراق ليس إلا نموذجاً من بين سواه، حيث لا يستقيم تفسير أحواله الراهنة بردّها الى ارتكابات الاحتلال الأميركي فحسب، والتغافل عن تهيئة الدكتاتورية الأرض خصبة للكارثة.
وفي الطرف المقابل، يقف خليط من القوى لا يجمع بينها جامع لشدة اختلاف طبيعتها، سوى ربما رفضها اعتبار الاستسلام للهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة قدراً لا مهرب منه. هناك ديموقراطيون وإسلاميون ويساريون ينتمون الى هذه «الحساسية»، وفي داخل كل واحدة من تلك التوصيفات عالم كامل وشديد التناقض أحياناً، بحيث يشك الواحد منا في جدارة التوصيف أصلاً، إذ تبدو قوى إسلامية ويسارية أقرب الى بعضها من قوى إسلامية إلى إسلامية صرفة، أو يسارية إلى مثيلاتها. وهناك بؤر تنتمي الى موقف رفض الهيمنة الأميركية والإسرائيلية من دون أن تكون على قدر واحد من الاصطدام بتلك الهيمنة. وهناك هيولى في ما يخص ما يتعدى ذلك الرفض، أي الإجابة عن أسئلة كيف؟ وثم ماذا؟ وتتهرب هذه القوى من قصورها ذاك بتغليب المهمات «العملية»، فلا نقع لديها على نص يعبّر عن رؤية عامة للمنطقة، ولا لنفسها وخططها، ولا لتحالفاتها المحلية والإقليمية والعالمية... وهي إذ تنحو كذلك تقع في فخ الجزئية القاتل لها. فكيف يمكن تبرير وضعية حزب الله، سلاحه ومواقفه، من منظور استمرار احتلال مزارع شبعا؟ وكيف لا يتحول حزب الله الى معبّر عن أحد أجنحة التركيبة الطائفية للبنان، التي تفترض لتستقيم مساواة ما بين قدرات كل أجنحتها، حين يخوض التحالفات عقداً وفكّاً بوصفه يمتلك خزاناً شعبياً شيعياً بالأساس، فيتحالف انتخابياً مع رفيق الحريري ثم ابنه من بعده، ويرفض التحالف مع الحزب الشيوعي مثلاً. تخيّلوا لو أن هناك تحالفاً علنياً وبرنامجياً بين الاثنين، يحتفظ فيه كلٌ منهما بخصائصه وبسائر تحالفاته. تخيّلوا لو أن بين النواب الحاليين في البرلمان اللبناني والوزراء المستقيلين من حكومة السيد السنيورة أعضاء في الحزب الشيوعي اللبناني. انتبهوا الى التوظيف الهائل الذي مارسته قوى الالتحاق بالهيمنة الأميركية لظاهرة «اليسار الديموقراطي» على رغم ركاكتها. إنه الاستخدام القوي للدلالة الرمزية ليساريين يبررون الالتحاق بالأميركيين، بما يسعى الى نزع شبهة العمالة عن هذا الالتحاق ووضعه في خانة العقلانية. سيناريو متكرر منذ قام الأميركيون أنفسهم بمغازلة الحزب الشيوعي العراقي فانجر بعضه ــــ وقيادته الرسمية ــــ الى الاجتماعات المغلقة في البنتاغون. والاهتمام بهم لم ينبع من أنهم جحافل هم الآخرون، بل للسبب نفسه المذكور أعلاه، وقد أدى الغرض تماماً. كانوا ورقة التوت، وهي على هزالها، ضرورية.
وقبل الإحالة على الحلقة المقبلة المخصصة لأزمة هذا الطرف الأخير ولمعنى «الممانعة» والثورة واشتراطاتهما الإلزامية كما تتبدّى اليوم، ثم في مرة تالية لنقاش في «واقعية» خيار الاستسلام وإمكان اعتماده في ضوء تجارب قائمة يقع في مقدمها العراق وفلسطين وأفغانستان، أي البؤر الملتهبة. لا أريد مغادرة هذه الصفحة قبل التشديد على ملاحظة انعدام توزّع تلك القوى والتيارات، كلها، على أساس مذهبي، على رغم طغيان ذلك الانقسام على المشهد، ظاهرياً على الاقل، أو بتعبير أكثر صراحة، لا تختص طائفة بالاستسلام فيما طائفة أخرى ثورية... ولا أيديولوجيا كذلك.

* كاتبة لبنانية