هل من أحدٍ في الداخل؟ يطلّ علي عبد الغني برأسه من داخل خيمة أهالي «العسكريين المخطوفين» في وسط بيروت، مجيباً «كان في حسين (والد العسكري المخطوف لدى داعش حسين يوسف)، شرب قهوته ومشى منذ بعض الوقت ولن يعود قبل ساعتين». ينهي كلامه، ثم يعود إلى عمله الذي اعتاده كل صباح: يوضّب الأسرّة. يكنس أرض الخيمة ويحمل ما تيسّر من «الكلاكيش»، كما يقول، ليضعها على الطاولة التي صارت تؤوي أغراض الأهالي، حتى الثياب. ينهي الشاب عمله، ويجلس إلى الطاولة التي وضعت للضيوف في الخارج، ويسأل ضيوفه، وغالبيتهم من الإعلاميين «شو بتحبّوا تشربوا؟». يأخذ طلباتهم، ثم يستدير نحو الشرطي الواقف بالقرب من الخيمة. يناديه باسمه «شو بتحب تشرب؟». علي، الشاب المطرود حديثاً من عمله في حراسة أحد مباني وسط بيروت، صار يعرف الكلّ هناك. ينادونه، على سبيل المزاح «سيكيورتي خيمة الأهالي». وعندما يعرّف عن نفسه للضيوف الجدد، يقول: «أنا ابن البسطة، كنت أطالب بحقّي خلال نشاطات الحراك المدني، والتقيت صدفة بأحد الأهالي العسكريين، فصرت أساعدهم في تلبية بعض حاجياتهم حتى أصبحت فرداً منهم». لا صلة قرابة للشاب مع المخطوفين، ولكنّه اختبر وجعهم، وأصرّ على البقاء معهم، متضامناً «فهذا أقصى ما يمكن أن أساعد فيه». أول من أمس، عندما أُفرج عن العسكريين الذين كانوا مختطفين لدى «جبهة النصرة»، احتضن والد أحد العسكريين علي. قبّله وقال له «أنت متل ابني». الكلّ يعتبرونه كذلك في الخيمة، حتى حسين يوسف، والد محمد، صار يجد صورة ابنه فيه. أمس، بعدما انتهى اليوم الطويل في الخيمة، بقي يحرس حزن حسين على ابنه الذي لم يعد. بقي صامتاً. لم يعكّر خلوة الأب مع قلبه. انتظره كي يغفو، وغادر، قبل أن يعود صباحاً، ليرتشف معه قهوته الصباحية، لعلمه بأنّه «ذاهب في مشوار بعيد». سينتظره بعد الظهر، لأنّه يعرف بأنه عائد إلى هنا، فحسين «طلّق» البيت بعد اختطاف بكره. صار يعدّ أيامه هنا، في الخيمة أمام شاشة التلفاز، كما يعدّ أعقاب السجائر في المنفضة عندما يخلو إلى نفسه. لم يعد يحسب أيّامه. يستيقظ صباحاً. يلقي تحية الصباح على صورة ابنه المعلّقة أمام الخيمة. يشرب القهوة، ثم ينتظر مواعيد اللقاءات أو خبراً عن ابنه، في الغالب لا يأتي. بعد انتهاء اليوم، يحمل همومه إلى سريره في الخيمة. يستلقي ويغيب في هدوئه. ومثله يفعل البقية المنتظرون لأبنائهم المختطفين لدى «داعش»... ومثلهم يفعل أيضاً المنتظرون منذ أربعين عاماً في خيمة «مفقودي الحرب اللبنانية» على مقربة منهم.
لا يحتسب لامع مزاحم الأشهر التي قضاها في الجرود من عمره: بدّي أعمل «delete»
صباح أمس، لم يكن أحد في الخيمة. فقد تحرّك أهالي العسكريين لدى «داعش» صوب عرسال للقاء رئيس البلدية علي الحجيري «بركي في شي باب ضو»، تقول شقيقة العسكري الأسير سيف ذبيان. تضيف: «تجدّد لدينا الأمل بعودة أبنائنا، أكيد رح تنحلّ، ما شفتي مبارح؟»، قبل أن تكمل، وقد خفت صوتها «حلمي تكفّي هالمسيرة وشوف خيّي، مبارح ما عرفت كيف بدّي فسّر شعوري، دمعة فرح ودمعة حزن، كنت مبسوطة بعودة الشباب، وبنفس الوقت بطّلع إذا طل خيّي وراهن». هكذا، كان شعور البقية أمس. مزيج من الفرح والحزن. لم يوقفوا عدّاد الأيام. هم مستمرون على عكس بقية الأهالي الذين فرحوا أمس بعودة أبنائهم، ومنهم هادي مزاحم، الأب الذي حضر منذ الصباح الباكر إلى الخيمة، مصطحباً «الأسير المحرّر» لامع. غمر علي، وكأنّه يراه للمرّة الأولى، وعرّفه إلى ابنه الذي غاب عاماً وأربعة أشهرٍ عن قلبه. قال له «هيدا لامع يا علي»، وأشار بيده إلى صورته المعلّقة. استدار علي نحو الصورة، مستغرباً «هيدا هو؟ كتير مغيّر». ابتسم لامع، قائلاً: «منيح اللي بعدني بعقلاتي». يكمل الوالد، الذي انزاح «الجبل عن ظهره»، حديث ابنه «كنت أخاف عليه من فقدان الوعي، ولكنني فرح جداً لأنّه طبيعي، فعندما عدنا أمس إلى الضيعة تذكّر كل شيء، حتى أنه صار يدلّني على بعض الأماكن ويسألني عن أخرى أين صار أصحابها». إلى هذا القدر، كان الخوف متجذّراً. «الطبيعة» كانت تشغل بال الأهالي، فالعيش في كنف «جبهة النصرة، يعني أنك تموت»، يقول لامع. لا يحتسب الشاب العشريني الأشهر الطويلة التي قضاها في الجرود من عمره. «بدّي اعمل delete» (سأمحوها)، يقول ممازحاً. ولكن هل تقدر على فعل ذلك؟ يعترف: «لا، في كل يومٍ هناك كنت أنتظر الموت، كالمحكوم بالإعدام، كنا نرى ما يريدونه هم أن نراه». يروي باختصار حكايته مع التنظيم الإرهابي: «فيقول في الأشهر الأولى من الخطف، وضعونا في منزلٍ في الجرود، ثم نقلونا في الأشهر الثمانية الأخيرة إلى العيش داخل مغارة على شكل L». من تلك المغارة: «خرجنا مرّتين، ولكن لم يكن هناك شيء، أرض بلا ناس مقفرة، باستثناء بعض الأشجار المثمرة». في هذه المغارة قضوا أشهرهم الأخيرة «وكانت جبهة النصرة تتحكّم في ما نشاهده، فمثلاً كانوا يرسلون لنا على هواتفنا الأفلام والأخبار التي يختارونها هم عن انتصاراتهم، حتى كنا نشعر بأننا سنموت». كان صعباً على لامع هذا الأمر، كما رفاقه، ولكنّه أسهل من «رؤية عائلتي على شاشة التلفون، كنت أفكّر بأنني لن أراهم مرة أخرى». مع ذلك، لم يصدّق إلى الآن أنه بين أهله، كما لم يصدّق وهو في سيارة الجيب التابعة للنصرة أنه سيعود إلى بيته. ظلّ يفكّر حتى اللحظة الأخيرة أن «كل شيء سينتهي في اللحظة الأخيرة وسيدير سائق الشاحنة المحرّك ويعود بنا إلى المغارة». يبتسم الوالد ثم يقول: «خلص ما إنت هون. رح تعمل متل امّك؟». أمّه التي «عاشت فترة غياب لامع بالبكاء». تماماً كما لا تزال تفعل وضحة، زوجة خالد مقبل، التي تقضي أسبوعاً في الخيمة في بيروت، وأسبوعاً مع أولادها. أمس، كانت في عرسال تتوسّل أية طريقة لعودة زوجها. ومن عرسال، ستأتي إلى الخيمة تمارس فعل الانتظار. لا يهمّ كم ستبقى هنا. المهمّ أن يعود خالد.