هذه المرّة، بعلبك «غير». فبعد 18 عاماً على أول انتخابات بلدية، يبدو أنّ ثمة ما تغيّر. ثمّة من التفت إلى أن صفة المواطن لا تعني بالضرورة أن يكون ذكراً لكي يمارس شأناً عاماً. المرأة أيضاً «مواطن» قادر على إيصال رسالة. من هنا، قرّرت 3 «مواطنات» خوض الإنتخابات البلدية في مدينتهنّ بعلبك.خطوة تأتي لتفتح كوّة أملٍ في الجدار. لتغيّر مفهوم العمل البلدي وصورته النمطية «التي تقول إن الذكور هم فقط قادرون»، على ما يقول الوزير السابق شربل نحّاس. تلك الصورة التي فشلت طوال 3 «ولايات» بلديّة في تخفيف وجع الناس، حيث لم يبق منها إلا ذكر «المحدلة». أو كما يحلو لنحّاس توصيفها بحكاية «التلميذ الراسب».
على طريقته، يصف نحّاس قصّة «الشغل البلدي» الذي يحدث منذ ما يقارب ثلاث دورات متتالية. قصّة «تلامذة معذّبون وراسبون في كل شيء... حتى في الإملاء. ينتظرون الوقت المستقطع ما بين الرسوبين ويمارسون انتصارهم، إذ سيحدث أن ينقسموا لفريقين في لعبة فوليبول. ينتصر أحدهم فينتشي ويصبح قائداً... ليعود بعد الإستراحة إلى قاعدته: راسباً».
هذه هي قصّة الشغل البلدي، التي يصل فيها أحدهم إلى الفوز، حاملاً برنامجاً انتخابياً ــــ بالطول وبالعرض ــــ يتقمّص منصبه، ويفشل في كل شيء يسمى إنجازاً، وإن كان في الوعود يصلح بأن يكون قائداً لفريق فوليبول!
وهذه قصّة نابعة من واقع معيش، لا كهرباء فيه ولا ماء ولا ضمان ولا أي شيء، باستثناء «جدران الدعم» ربما. من توارثوا المقاعد على مدى ثمانية عشر عاماً هم أنفسهم الراسبون في تأمين مقومات العيش العادي للناس، لا اللائق. هم أنفسهم زعماء اللعبة الذكورية في الصميم. ولكن في بعض الأحيان، ثمّة فسحات مستقطعة تحتاج إلى الجرأة. من هذه الفسحة بالذات، انطلقت حملة «مواطنون ومواطنات في دولة» في تجربتها لخوض الإنتخابات البلدية، في مدينة بعلبك، التي تنطلق منها، هذه المرة، «بوسطة المواطنات»، التي تضمّ الشابات الثلاث، هديل الرفاعي ويمنى الطفيلي وميرفت وهبي. 3 شابات «بعلبكيّات متعلّمات»، على ما تقول المرشّحة وهبي.
نحن لسنا ضدّ
المقاومة كما يصوّر البعض بل من عائلات هي صلب المقاومة

هنّ، في رأي نحاس وكثيرين غيره، كنّ الأكثر جرأة. وهذه الصفة ضرورة ملحّة، وإن لم تكن موجودة، لا يمكن بناء دولة «متل الأوادم». ففي بعلبك مثلاً وزحلة وصغبين وغيرها من المناطق، أثبتت التجربة الفعلية أن «حظوظ توافر الجرأة كان بارزاً لدى النساء»، برغم أن «النق والشكوى» صفة مشتركة بين الجميع. أما السبب؟ فالحديث يطول عن «الأشاوس» الذين يفقدون تلك الجرأة عند المحك. فعندما يبدأ الحديث عن «الترشّح من منطلق تغيير اللعبة المنفصلة كلّياً عن الواقع»، ينفضّ هؤلاء الأشاوس.
وحدهن تحمّسن لفكرة السير عكس التيّار السائد. لا من أجل مواجهة «المحادل»، وإنما لإيصال رسالة. وفي هذا الإطار، تقول الرفاعي إنّها ترشّحت من أجل أمرين: أوّلهما لأنّ «هناك تهميشا كبيرا وإقصاء لدور المرأة، حيث لا تعطى حقّها في ممارسة دورها في الشأن العام والإيحاء بأنّها غير قادرة على فعل ذلك». وثانيهما لأنّ بعلبك «محرومة، وكل من أتى في الدورات السابقة كان يعمل على الضفاف، لم يتطرّق يوماً لوجع الناس».
هذا الوجع كان أساس «برنامجها» الإنتخابي الذي ستتحدّث عنه اليوم أمام الناس في ساحة السرايا. وهو بديهي في تفاصيله، ولكنّه مهم في حياة هؤلاء، وهي الحديث عن «أزمة المياه، فالعين موجودة في عقر دارنا ونحن نشرب من السيترنات (الصهاريج). وللكهرباء حصّة من البرنامج، حيث توجد محطّة للكهرباء هدرت فيها مئات آلاف الدولارات لتستخدم «فقط لتحويل الكهرباء». يعني على طريقة «الديجونتور».
وجع الناس في بعلبك لا يتوقّف هنا، فثمّة همّ «شباب المنطقة المجازين والعاطلين من العمل، هاجسنا هو تأمين فرص عمل لهم، وبما اننا مجتمع زراعي في بعض جوانبه، فسنولي أهمية للمشاريع الزراعية إضافة إلى الإهتمام بقطاع الأجبان والألبان»، تقول الرفاعي.
أما الطفيلي، التي تحمل شهادتين جامعيتين، فقد تحمّست للترشّح إلى الانتخابات «بعدما خضعت لدورة تدريبية في الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب التي هدفت لتطوير قدرات المرأة في العمل العام». أرادت أن تثبت أنها قادرة وأن ثمة «أشياء لا يلتفت إليها من يصل على متن محدلة، والأمثلة هنا كثيرة». تسأل الطفيلي: «هل يلتفت هؤلاء لمعاناة المرضى في إيجاد مراكز صحّية متخصّصة بالأمراض، بدل الموت على أبواب المستشفيات؟ هل بلغتهم خبرية أن الطلاب إذا ما أرادوا إكمال دراستهم الجامعية هم مضطرون للذهاب إلى بيروت؟».
أما وهبي، فـ«ستتلو» اليوم مشاكل أهل بعلبك مع «خطّة السير العصرية التي أقفلت مداخل القلعة ونسفت رزق أناس كثر». والحديث يطول هنا عما فعلته الخطّة «بالسياحة في القلعة التاريخية». وتطرح وهبي في هذا الإطار مشروعاً لتطوير القلعة ومحيطها «من خلال استغلال وجود البيوت القديمة لتشجيع السياحة عبر افتتاح محال لتشجيع أشغال أهل المدينة والأشغال التراثية على شاكلة محيط القلاع التاريخية».
وما هو أبعد من البرامج، إيصال الرسالة بأنّ «أهل بعلبك متعلمّون وثمة كفاءات كثيرة، وليسوا كما يظهرون في الإعلام قطّاع طرق ولا تجّار مخدّرات، بس المشكلة إنو حبّة بندورة معفّنة بتنزع سحّارة». ولا تنسى وهبي أن توصل إيضاً الرسالة الثانية وهي «أننا لم نترشّح في وجه أحد، فنحن لسنا ضدّ المقاومة كما يصوّر البعض. نحن من عائلات هي صلب المقاومة ولكن نطمح للتغيير». ولكن، هل سيحدث التغيير؟ هنا، يشير منسّق حملة «مواطنون ومواطنات في دولة» الدكتور علي حيدر إلى أن التغيير هو في «الأوّل مرة» التي تحدث في مدينة بعلبك. فعلى مدى 3 دورات انتخابية، لم يحصل أن ترشّحت امرأة إلى الإنتخابات، باستثناء سيّدة واحدة اضطرت لسحب ترشيحها في اللحظات الأخيرة. أما اليوم، فما يحدث «دليل عافية»، وهو ليس حكراً على بعلبك، وإنما أيضاً زحلة وصغبين والهرمل التي ترشحّت فيها 5 نساء هذا العام.
الأمر مفرح، وإن كان «في الواقع ما إلنا حظوظ بالنجاح»، يقول حيدر، ولكن «نحن لا ننظر إلى ما سنحصّله في الصندوق، إذ ثمة أهداف من هذا الأمر، وهو أن المرأة مواطن له الحق في المشاركة في شأن عام، وهو ترشيح المواطن في مدينة بعلبك بعيداً عن الصيغة النمطية التي تقول إن استحقاقات كهذه شو بدها تعمل المرأة فيها». وما يستتبع بذلك من الأمل في تحويل هذه الإستحقاقات «من الحالة العائلية والفخذية والجبيّة».
أما بالنسبة للبرامج الانتخابية، فيلفت حيدر إلى أنّ «الهدف كان الخروج من الشأن الخاص إلى العام، على اعتبار أن أزمة النفايات ليست بيروتية ولا بعلبكية وكذلك المياه والكهرباء، فهذه تمسّ الناس كلهّم».
تبقى مشكلة صغيرة هنا، ولكن يعوّل عليها، وهو هذا الإستغراب من خوض امرأة ما يعدونه معركة خاصة بالذكور. يبتسم حيدر عندما يقول إنّه يتوقّع حضوراً كثيفاً أمام السرايا اليوم. أما السبب؟ فلأن «الناس متفاجئة لأن مرشّح سيّدات». وإن كان في الوقت نفسه يفرح بهذه «الحالة» التي تنتجها مدينة بعلبك، بعيداً عن الأرق من الصندوق.