كعادتنا كنا، جورج غانم وعبدالله أبو حبيب وأنا، نلتقي أسبوعياً لتناول الغداء والتداول في شؤون البلد وتبادل المعلومات. إلا أن الغداء الأسبوعي الذي سبق إجتماع طاولة الحوار، يوم الإثنين بتاريخ 11 حزيران العام 2012، كان مثقلاً بالتشاؤم الذي عبّر عنه جورج نقلاً عن رئيس الجمهورية آنذاك ميشال سليمان. بادرت الى سؤاله: هناك طاولة حوار من المفترض أنها تبحث عن مخارج لهذا الواقع المأزوم وإلا ما هو دورها؟
أجاب: لا شيء، فقلت: إذن فلنقترح بعض الثوابت الوطنية على أن تُصاغ لاحقاً في بيان يحمله رئيس الجمهورية الى طاولة الحوار دون كشفه مسبقاً حتى لا يفسح لهم في المجال لمناكفات وسجالات أو غياب عن الجلسة.
رد جورج: متل شو؟ فأخذت عن الطاولة مجموعة من المحارم الورقية ووضعتها أمامه، وقلت: فلنبدأ بتسجيل هذه النقاط. فإستل جورج قلمه وتولى كتابة خلاصة أفكارنا التي تداولناها، وهي مضمون معظم البنود التالية وفق الترقيم المعتمد في البيان:
1 ــــ إلتزام نهج الحوار والتهدئة الأمنية والسياسية والإعلامية والسعي للتوافق على ثوابت وقواسم مشتركة.
2 ــــ إلتزام العمل على تثبيت دعائم الإستقرار وصون السلم الأهلي والحؤول دون اللجوء الى العنف والإنزلاق بالبلاد الى الفتنة.
3 ــــ دعوة المواطنين بكل فئاتهم للوعي والتيقن بأن اللجوء الى السلاح والعنف مهما تكن الهواجس والإحتقانات يؤدي الى خسارة محتمة وضرر لجميع الأطراف ويهدد جميع أرزاق الناس ومستقبلهم ومستقبل الأجيال الطالعة.
5 ــــ دعم الجيش على الصعيدين المعنوي والمادي بصفته المؤسسة الضامنة للسلم الأهلي والمجسّدة للوحدة الوطنية، وتكريس الجهد اللازم لتمكينه وسائر القوى الأمنية الشرعية من التعامل مع الحالات الأمنية الطارئة وفقاً لخطة إنتشار تسمح بفرض سلطة الدولة والأمن والإستقرار.
8 ــــ دعوة جميع القوى السياسية وقادة الفكر والرأي الى الإبتعاد عن حدة الخطاب السياسي والإعلامي وعن كل ما يثير الخلافات والتشنّج والتحريض الطائفي والمذهبي، بما يحقق الوحدة الوطنية ويعزز المنعة الداخلية في مواجهة الأخطار الخارجية، ولا سيما منها الخطر الذي يمثله العدو الإسرائيلي، وما ينعكس إيجاياً على الرأي العام وعلى القطاعات الإقتصادية والسياحية والأوضاع الإجتماعية.
10 ــــ تأكيد الثقة بلبنان كوطن نهائي وبصيغة العيش المشترك وبضرورة التمسك بالمبادىء الواردة في مقدمة الدستور بصفتها مبادىء تأسيسية ثابتة.
11 ــــ التمسك بإتفاق الطائف ومواصلة تنفيذ كامل بنوده.
13 ــــ الحرص تالياً على ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية ــــ السورية وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وبإستعمال لبنان مقراً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين، ويبقى الحق في التضامن الإنساني والتعبير السياسي والإعلامي مكفولاً تحت سقف الدستور والقانون.

النأي بالنفس

في الحقيقة، كان مضمون البند رقم 13 الهاجس الأكبر الذي دفعني الى إبتداع فكرة البيان، وهو البند الذي حاز على نقاش مستفيض في لقائنا، ذلك أن سياسة ماسُمي «النأي بالنفس» التي إعتمدتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي جعلت من لبنان ــــ عملياً ــــ مقراً وممراً ومنطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين، خصوصاً إذا عدنا الى تاريخ مصادرة باخرة «لطف الله» في 17 أيار2012، أي قبل حوالي شهر من جلسة حزيران للحوار.

عندما وزع سليمان
نص البيان على المتحاورين رفضه السنيورة مباشرة
ثم ثبتت مراجع امنية وسياسية أن الباخرة لم تكن الأولى، ولم تكن الوحيدة التي تم إكتشافها. إضافة الى أن الجزء الأول من هذا البند يشكل أحد ثوابت إتفاق الطائف في ما يتعلق بالعلاقات اللبنانية ــــ السورية. هذا عدا عن الوقائع التي كانت متداولة آنذاك لدى المتابعين عن تسرب مقاتلين من جنسيات عربية مختلفة عبر المطار والموانىء البحرية، وعن أسلحة ليبية المصدر يتم تهريبها الى بعض البلدان العربية ومنها لبنان.
كانت الحاجة ماسة لإلزام قوى 14 آذار، وبالأخص منها تيار المستقبل، بالنأي الفعلي بالنفس عن الأزمة السورية، وتحميله المسؤولية، خصوصاً انه تولى حينها توفير الغطاء السياسي والأمني لنقل السلاح والمسلحين الى جميع أنحاء سوريا. وقد واجه الرئيس فؤاد السنيورة المقترح برفض مطلق للبيان. كيف لا ولم تمر أربعة أشهر حتى كان الجيش العربي السوري قد تصدى لمقاتلين لبنانيين وغير لبنانيين يحاولون التسلل عبر الحدود اللبنانية الى منطقة تلكلخ السورية.
حمل صديقنا جورج المقترحات الى رئيس الجمهورية، وعلمنا لاحقا ان الرئيس أعجب بها، وطلب الى المدير العام السابق في القصر الجمهوري السفير ناجي أبي عاصي إعادة صياغتها وفق خبرته وحِرَفيته الدبلوماسية، وبما يتطابق مع القرارات الدولية المتعلقة بلبنان، مع إضافة ما تبقى من بنود البيان الذي صدر.
إنتظرنا، السفير أبو حبيب وأنا، أياماً قليلة، قبل أن نتصل مجدداً بجورج لسؤاله عن مصير المقترح، فأكد أنه تتم إعادة صياغة هذه الثوابت مع بعض الإضافات تمهيداً لطرحها على طاولة الحوار «الإثنين المقبل».
يوم الإثنين الموعود دخل الرئيس سليمان الى قاعة طاولة الحوار، وتبعه مساعدوه يحملون مجموعة أوراق هي نص البيان وقاموا بتوزيعها على الحاضرين. تمت قراءته. رفضه مباشرة الرئيس السنيورة، عدّله الحاج محمد رعد بإضافة التأكيد على الخطر الإسرائيلي، تلقفه الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط. ثم دار هرج ومرج أدى الى إنسحاب بعض الاقطاب من الجلسة، لكن إصرار سليمان على إصدار هذا البيان ــــ وليس الإعلان ــــ أبقى المذكورة أسماؤهم فقط حول الطاولة، فكان البيان المتداول الذي نَضُج وكَبُر ليصير إعلاناً يتجاوز الدستور والثوابت ويُحمَل الى الجامعة العربية والأمم المتحدة بإسم طاولة حوار لم تقره مجتمعة أو بالإجماع !
نافل القول، ان ما عرف لاحقا بـ «إعلان بعبدا»، هو في الحقيقة بيان صادر عن طاولة الحوار. وحتى هذا البيان، لم يكن من بنات افكار فخامة الرئيس السابق، حتى يدعي العكس!
* سياسي وإعلامي لبناني