المعركة ضد البيوتات السياسية التقليدية كانت واحدة أمس، في كل من منيارة (بلدة الوزير السابق يعقوب الصراف)، والشيخطابا (بلدة النائب السابق كريم الراسي)، ورحبة (بلدة النائب السابق عبدالله حنا)، والقبيات (بلدة النائب هادي حبيش).كان موقف القوات اللبنانية، في هذه المعركة، واضحاً: تركت لناخبيها الحرية في رحبة ومنيارة، وكانت رأس حربة إلى جانب التيار الوطني الحر في مواجهة حبيش والراسي في القبيات والشيخطابا. أما التيار فكانت حماسته الرسمية كبيرة للمعركة في القبيات والشيخطابا، وهو دعم، رسمياً أيضاً، لائحة رئيس بلدية رحبة سجيع عطية. إلا أن فتح هواء "أو تي في"، قبل 24 ساعة من الانتخابات، للمرشح المناوئ لعطية (فادي بربر) وسط "انفحاط" مقدمة البرنامج به ــــ في ظل شائعات مدروسة في البلدة عن العلاقة الوطيدة للمتمول الأفريقيّ برئيس التيار الوزير جبران باسيل ــــ لم يكن عملاً عونياً ذكياً.
في القبيات خرج المارد القواتيّ من قمقم 14 آذار وتبين أن لا وجود لـ"قوات هادي"

في منيارة بقي الموقف العونيّ الرسمي ملتبساً مع انقسام العونيين ثلاث مجموعات؛ واحدة ضخمة غير ملتزمة تؤيد رئيس المجلس البلدي أنطون عبود، وأخرى تمثل نحو نصف الملتزمين + 1 وتؤيد عبود أيضاً، وثالثة تضم منسق هيئة منيارة في التيار وعدة ملتزمين جديين آخرين تدور في فلك الوزير السابق يعقوب الصراف. وبعد أخذ ورد طال أسابيع، نجح الصراف في انتزاع تبنٍّ رسميّ للائحته من باسيل، بعكس القوات اللبنانية التي راعت وجود ملتزمين ومؤيدين لها في الجهتين، فتركت الحرية لناخبيها. أما اللافت في هذه القرى الأربع، وغيرها، فهو: أولاً الحضور القوي والبارز لعنصر الشباب على اللوائح؛ وثانياً دخول الصفحات الافتراضية بقوة على خط المنافسة الانتخابية؛ وثالثاً اضطرار رؤساء المجالس البلدية الحاليين إلى بذل جهد استثنائي لتفنيد إنجازاتهم بعدما باتوا يتحسّبون، فجأة، لمحاسبة الناخبين واهتمامهم المستجد بالبرامج الانتخابية وسبل ضمان تحقيقها. أما المال الانتخابي فقد تجاوز، وفق الروايات المتداولة، كل الحدود المنطقية. فتحدثت مصادر موثوقة عن وضع المرشحين رزماً تصل إلى عشرين ألف دولار في بيت لا يتجاوز عدد ناخبيه أربعة. إلا أن تأثير المال، رغم وفرته، بقي محصوراً بمجموعة ضيقة من الناخبين الذين التزم الجزء الأكبر منهم ــــ كما كان واضحاً في رحبة ومنيارة ــــ بمبدأ "اقبض منهم وانتخب ضدهم"، علماً بأن الأموال التي دفعت في الانتخابات البلدية أضعاف ما يمكن أن يدفع في الانتخابات النيابية.
بالعودة إلى القرى، في القبيات كانت المعركة الأكبر بين التيار والقوات من جهة، وحبيش من جهة أخرى. وهي معركة أولى من نوعها يتطلع العونيون والقوات إليها منذ أكثر من عشرين عاماً. فرغم التحالف السياسيّ السابق بين المستقبل والقوات، عجز كثيرون من مناصريها في القبيات عن هضم النائب المستقبلي أو تجاوز مآخذهم عليه منذ انتخب والده نائباً برضى الاستخبارات السورية ومباركتها، علماً بأن حبيش حاول وضع يده على القوات عبر تنسيب بعض مناصريه إليها. وفي ظل وحدة المسار والمصير، لم يكن واضحاً في المرحلة السابقة حجم كل من القوات وحبيش على حدة. إلا أن القوات اجتازت في القبيات امتحاناً كبيراً حين أثبتت أن نسبة الالتزام الحزبي تتجاوز 95% ولا شيء اسمه "قوات هادي". ومن يقارن الحضور القواتيّ هذه المرة مع الاستحقاقات السابقة يلاحظ ما يمكن وصفه بخروج المارد القواتيّ من قمقم 14 آذار. فقد طغى الحضور القواتي في شوارع القبيات على الحضور العونيّ، رغم أن عدد العونيين يبلغ ضعفي عدد القواتيين. وبدا في محطات كثيرة أن المعركة قواتية أكثر منها عونية. فالعونيون اعتادوا مواجهة حبيش. أما القوات فهذه أول "فشة خلق" لهم، وهم يريدون أكثر من أي أحد آخر تعرية نواب المستقبل المسيحيين وإثبات عدم امتلاكهم أيّ حيثية مسيحية جدية. ولا شكّ في أن الفرز السياسيّ في القبيات كان أوضح وأصدق مما كان عليه في كل المناطق الأخرى. فعلى نحو يتطابق بالكامل مع الانقسام السياسي، تعسكر حزب الكتائب وتيار المستقبل والبيوتات السياسية والزعامات المحلية التقليدية في جهة، والعونيون والقوات في جهة أخرى. ومرة أخرى، يُسجّل لتيار القبيات، في ظل الانقسامات العائلية، وحدته وتماسكه وذهابه دائماً حيث لا يجرؤ الآخرون.
أما رحبة فكان "هاديها" النائب السابق عبدالله حنا الذي أثبت أنه قادر على شدّ عصب عائلته الكبيرة حين يشاء، ودفعها إلى التصويت كما يشاء. وقد برز أيضاً حضور كبير ومنظم ووازن للشيوعيين الذين يفترض أن يستخلصوا دروساً كثيرة من تجربة رحبة لوضع التفاصيل الخلافية جانباً والعمل بعضهم مع بعض لاستعادة ما خسروه. إلا أن الأهم من هذا كله هو إظهار رحبة (والقبيات) أن الخدمات ما عادت تكفي البيوتات السياسية لإثبات حضورها، وهي تحتاج إلى متمولين متهورين إلى جانبهم. ولا بدّ من التذكير دائماً بأن النواب الحريريين يبذلون كل هذا الجهد لإثبات حضورهم في بلداتهم، فيما تنافس الأحزاب نفسها في سائر بلدات القضاء، والانتخابات النيابية تجري على مستوى القضاء لا البلدة. ومقابل استنفار حنا والشيوعيين والقوميين، حظي مدير أعمال نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس ورئيس بلدية رحبة، سجيع عطية، بدعم هيئة التيار الوطني الحر في رحبة أولاً وقضاء عكار ثانياً، الأمر الذي دفع خصوم عطية إلى محاولة الاستحصال على قرار من قيادة التيار بترك الحرية للناخبين أو دعم لائحة حنا ــــ الشيوعيين. ويسجل في هذه المعركة أن خصوم عطية ركزوا كثيراً على سمات في شخصيته لا تعجبهم، فيما نجح هو في رمي كرة المال الانتخابي في ملعب خصومه، فباتوا في موقع الدفاع الدائم عن النفس، وحوّل الأنظار إعلامياً باتجاه المشاريع الإنمائية، مكرراً في نحو عشر مقابلات تلفزيونية، خلال أسبوع واحد، الحديث مرة تلو أخرى عن البطاقة الصحية وضمان الشيخوخة و"مشروع العمر" السكني، حتى بات رؤساء المجالس البلدية الأخرى "يهلوسون" بهذه العناوين لكثرة ما سمعوا بها أو سئلوا عنها. ولا بدّ، أخيراً، من لحظ الاهتمام الاعلامي المنقطع النظير ببلدة عكارية بعيدة حين يكون أحد المرشحين محسوباً على عصام فارس والآخر "متمولاً كريماً"، علماً بأن فوز أيّ من الطرفين لا يمكن أن يحمل أيّ تداعيات سياسية.
بدورها شهدت الشيخطابا محاولة من العونيين والقوات لإظهار عجز أمين سر لقاء الأحزاب الوطنية كريم الراسي عن الفوز بمجلس بلدية قريته. أما منيارة فشهدت معركة بين الوزير الصراف الذي حظي بدعم التيار الوطني الحر والكتائب ـــ وهو عبّر في احتفال إعلان لائحته عن تطلعه إلى الحصول على بطاقتين حزبيتين عونية وكتائبية ـــ ورئيس المجلس البلدي الحالي أنطون عبود المقرّب من الحزب السوري القومي الاجتماعي. وحظي الأخير بدعم عونيّي البلدة الذين عجزوا عن الوصول إلى الرابية لتذكير العماد ميشال عون بوقوف عبود إلى جانبهم في كل الاستحقاقات، سواء السياسية أو التربوية أو تلك المتعلقة بالصندوق البلدي المستقل. وكان لافتاً في هذا السياق عدم مبالاة البلدة العونية بقرار التيار الوطني الحر الرسمي. فالقاعدة هنا، كما في كل الأمكنة الأخرى، كانت في مكان والقيادة الباسيلية في مكان آخر. أما الإنجاز الحزبيّ الأبرز فيسجل لمنسق القوات اللبنانية في البلدة بيار حيدر الذي رفض وضع حزبه في تصرف مرجعية عائلية تقرر بالنيابة عنه خوض الانتخابات أو التوافق أو غيره، ووقف سداً منيعاً في وجه الضغوطات على قيادة حزبه التي خلافاً لقيادة التيار تفهّمت موقف المنسق ورفضت الانصياع للضغوطات، متمسّكة بقرار المنسق ترك حرية الاقتراع للناخبين، علماً بأن موقف حيدر أثار استياء قواتيين كثر لكنهم لم يشهّروا بمنسقهم أو بعضهم ببعض على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع، كما فعل العونيون. وفي النتيجة، مُني الصراف بأكبر خسارة يمكن أن تلحق بسياسي حين خسر، رغم الدعم العونيّ والكتائبي، مجلس البلدية المؤلف من 15 عضواً، كما خسر المقاعد الاختيارية الثلاثة، علماً بأن حضور الصراف في عكار يقتصر على بلدته، وثبت أن حضوره في بلدته نفسها متواضع جداً لا يتجاوز مع العونيين المؤيدين له والكتائبيين 700 صوت.