أشياء كثيرة تغيّرت منذ مرّت سحابة سوداء في سمائنا عام 2011 ولبدت! نعم، لا أحد ينكر ذلك، فالمساجد التي يعيّن «الشاباك» شيوخها لم تعد تصلي للرحمن، بقدر ما تشتم طائفة لا وجود لها في فلسطين أصلاً، والداخل بتركيبته المعقدة لم يعد بمنأى عن خريفٍ قالوا عنه «ربيعاً». ومع ذلك، هناك آذان لا زالت تسمع صوتاً من الجنوب، وتعرف أن الحرب التي شنتها إسرائيل في تموز 2006 وخسرتها، سيأتي عليها مثلها لا بل أشد وقعاً منها.في الذكرى العاشرة للانتصار، «الأخبار» تنقل بعض قصص من الجليل وسلاماً من أهله إلى المقاومة.
يبدأ علي الزيبق (عكا) حديثه لنا قائلاً: «كنا نبيت على أسطح المنازل، حيث تتعاون الزوجات والأمهات في تحضير عدّة السهر من الفرش والأغطية وبعض الطعام. يلتقي الجيران وتبدأ السهرة التي نفتتحها بباب المراهنات على مكان سقوط الكاتيوشا، ومن يخسر المراهنة يتوجب عليه توفير الطعام لليلة التالية». هل خسرت يوماً؟ تسأل «الأخبار» فيأتي الرد قاطعاً من الرجل المحبّ للمقاومة: طبعاً لا. ويتابع: «صفارات الإنذار كانت موسيقى يومية، بعد سماعها تتجه عيوننا نحو الشارع الرابط بين عكا وصفد، فنجده خالياً من المركبات كأنه اختفى عن الخارطة... عندما أسر حزب الله الجنديين الإسرائيليين إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف، في عملية نوعية قرب مستوطنة زرعيت، شعرنا بأن رجال المقاومة سيحرّرون الجليل، فمازحت أمي يومها سائلاً: بماذا سترشّين البواسل؟ فردّت بالياسمين والأرز». يضيف «أذكر في أول أيام الحرب قال لي (زميل) في العمل، وهو ضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي، إن الفرقة الموسيقية التابعة للجيش قادرة على إلحاق الهزيمة بأكبر جيش عربي. ولمّا قابلته مع نهاية الحرب ذكرته بمقولته فطأطأ رأسه خجلاً... لقد سيطر السيّد نصرالله على عقول أعدائه قبل أبدانهم، بالفعل هي أيام لا تمحى، منذ ذلك الحين ينام والدي قرير العين دون الحاجة إلى مسكنات الوجع!».
ما «زلنا» في الجليل، من عكا «نتجه» شرقاً صوب مجد الكروم، من هناك يروي محمد منصور قصته، قائلاً: «لم أخف في الحرب، برغم أن الصواريخ انهالت على قريتنا مرات عدّة ودمرت بيوتاً وخلّفت شهيدين وعشرات الجرحى، والسبب في عدم الخوف هو الثقة... الثقة بأن الصواريخ التي تتساقط علينا لا تستهدفنا نحن بل تستهدف الإسرائيليين».
أيضاً إلى الغرب من مجد الكروم، يروي ورد ياسين من جديدة المكر، أن «القرية استيقظت على صوت انفجار رافقه ارتجاج لجدران المنازل، ركضت خارجاً كغيري من الناس، ظناً مني أن هزّة أرضية قد وقعت، لم تمضِ دقائق قليلة حتى سمعنا دوي انفجار آخر، فعدنا إلى بيوتنا لاعتلاء الأسطح، ومن هناك استطعنا رؤية الدخان الأسود الكثيف المتصاعد من السهل... استقلينا سياراتنا وذهبنا نتفرّج، وإذ بنا نجد الجيش الإسرائيلي وشرطته قد سبقونا إلى المكان، مانعين أحداً من الاقتراب. كان ذلك اليوم مرعباً، حيث شعرنا لأول مرة ماذا تعني الحرب وماذا يعني القصف، وبالتأكيد لم تكن الأيام التالية أقل رعباً». يستدرك: «لكن مع كل هذا الخوف كان الناس متضامنين إلى أقصى حدّ مع المقاومة، إذ تفهموا أن هناك عدواناً على لبنان وعلى رجال المقاومة القيام بالواجب. كنّا ننتظر خطابات السيد حسن التي شبّهها كبار السن بخطابات عبد الناصر، وبالفعل كان الأمر شبيهاً بمنع التجول، حيث الكُلّ متسمر أمام الشاشات التي من خلالها كان السيّد يبث لنا الانتصار والفخر الذي لم نشعر به إلا حينها».
من الجليل الأعلى «ننزل» إلى سهل البطوف في الجليل الأسفل، من هناك تروي جميلة عاصلة بعضاً من قصتها «تلقيت مكالمة هاتفية من امرأة يهودية تسكن في هرتسليا، كانت قد نشأت بيننا معرفة سطحية. طلبت مني يومها أن آخذ عائلتي لنحتمي في منزلها كون منطقتها أكثر أمناً من الجليل، ولتقنعني بالفكرة قالت إن ابني وابنها في العمر نفسه ولديهم أشياء مشتركة حيث من الممكن أن يقضوا وقتاً ممتعاً... أمّا أنا فأجبتها بحزم: منذ الآن لا شيء بيننا مشترك ولن يكون! لن أخرج من بيتي، فحياتنا ليست أهم من حياة الذين يستشهدون بفعل القصف الإسرائيلي على لبنان». وتتابع: «الصراع الأكبر بالنسبة لي كان بين الفرح والخوف. الأول نابع من قذف المقاومة صواريخها علينا رداً على العدوان الإسرائيلي، والثاني لأن هذه الصواريخ نفسها يمكن أن تتسبب في موتنا، مع ذلك كنا متضامنين مع المقاومة إلى أبعد الحدود، فهي لا تزال حتى اليوم الرئة التي نتنفس من خلالها كرامتنا!».
أمّا هاجر أبو صالح (سخنين ــــ الجليل الأسفل)، فتقول لـ«الأخبار» إن «صور الحرب لا تمحى من ذاكرتي، لا يزال غبار البنايات المدمرة، وقصف مدارس الأونروا حاضراً، يرافقه شريط الأخبار العاجلة كأنني أقرأه للتو... مشهد نزوح أهالي الجنوب، وأشلاء الشهداء كلها أشياء لا تزول. لكن أكثر ما أثر على فهمي وإدراكي للتمسك بمبادئ المقاومة والصمود هو السيّد حسن نفسه. أذكر في أحلك ليالي الحرب كيف هرع أخي من شباك إلى آخر، ناقلاً للجيران رسالته (سيد حسن ع التلفزيون عم يخطب)، وكيف بعد لحظات وصل صوت السيد من كل الحارات في المدينة إلى مسامعنا... كما أذكر أبي مهرولاً نحو السطح، بعدما سمعنا دوي انفجار ضخم، فأخذ يتبادل التبريكات مع جارنا كمن يحيي عرساً، لا كمن وقع صاروخ الكاتيوشا على بعد كيلومترات عن حارته!».
«تطنيش» إنذارات الإسرائيلي وعدم الاكتراث بالملاجئ، يشرحه فادي عاصلة (عرابة ــــ الجليل الأسفل)، قائلاً: «عام 2006 كنت أقيم في عرابة، وأعمل في كرمل حيفا، وكانت هناك مفارقة في المشهد. ففي القرى الفلسطينية كانت الحياة شبه عادية، وفي المدن والمستوطنات اليهودية أو ذات الأغلبية اليهودية كانت الشوارع خالية تماماً. كنت أنتقل بين عرابة وحيفا يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وكانت الطريق التي تمتد لأربعين دقيقة في الأيام العادية تستغرق عشرين دقيقة في أيام الحرب، حيث خلت الشوارع إلا من مركبات الفلسطينيين، الذين لم ينصاعوا للتحذيرات الإسرائيلية ولم يلتزموا بأوامر الاختباء في الملاجئ». ويتابع: «ظلت الحياة عادية بالنسبة إلينا، حيث كنّا نتجول مساءً، متنقلين في جبال الجليل العالية، التي كان يصل إليها صوت مدفعيات الجيش الإسرائيلي وهي تقصف قرى الجنوب، ومن خلالها أيضاً كنّا نرى في السماء أضواء الصواريخ المقبلة من لبنان تتساقط حولنا... لقد شاركت في جنازة طفلين فلسطينيين من الناصرة، أولئك الذين خرج والدهم يقول إن استشهادهم فداءً للمقاومة، والذي قابله السيّد حسن بالاعتذار. نعم لقد سقط عشرات الشهداء الفلسطينيين في الداخل والسبب هو عدم الاكتراث بالملاجئ، وتعاملنا مع الحرب كأنما هي لعبة كرة قدم على لبنان الفوز فيها، وهو ما لخصه لي عجوز بعد سؤالي له لماذا لا يخرج من بيته؟ فأجاب: نحن لا نخاف إذ لا شأن لنا بهذه الحرب، من سرق الأرض واحتل البلاد واعتدى على شعبنا هو الأجدر بالخوف، نحن لا نخاف حتى وإن سقطت هذه الصواريخ فوق رؤوسنا».