لم تبقَ إلا الشجرة، تلك التي صارت بنصف «قامة»، لتذكّر بليلة مرّت قبل عشر سنوات. هناك، في الدار الواسعة التي كانت تؤوي خلال حرب تموّز 96 هارباً من الموت، كبُرت شجرة الجوز. امتدّت ظلالها الوارفة لتغطّي المصطبة الجانبيّة وجزءاً من قطعة الأرض التي حوّلتها صواريخ الحرب، يومذاك، بوراً. وحدها، بقيت لتسند الذكرى، فيما شجرة التفاح التي أسند إليها مختار بلدة الجمالية حسين جمال الدين وجعه، ليل استشهاد ابنه مكسيم وستة من الرفاق والجيران، انتهت، كما بقيّة الأشياء التي راحت تباعاً. قدر الإمكان، حاول أبو مكسيم إبقاءها على قيد الحياة، فهي بالنسبة له «كلّ ما بقي من أثرهم». ظلّ يعالجها عاماً كاملاً، وإن لم يكن لديه اليقين، حينها، بأنها ستعود، «بعدما نزل فيها 7 صواريخ». لكنّه، صبر، وفي كلّ يوم، كان يرمّم «جرحها» ويسقيها. كان يقول في سرّه «لازم تعيش». كان يعوّل على هذا البقاء، ولم يكن مجنوناً. قبل أشهرٍ من الذكرى العاشرة على حرب تمّوز، انفلش جذع شجرته. بقي نصفه مغروساً في الأرض، فيما انهار الجزء الثاني. يومها، شعر الرجل بأن شيئاً ما يُتلَف في قلبه. «انوجعت»، يقول. مع ذلك، لن يستسلم «فسأفعل ما في وسعي كي تبقى».
اليوم، تمرّ عشر سنواتٍ على الحرب المشؤومة. وتمرّ عشر سنواتٍ «إلا شوي» على المجزرة التي وقعت تحت «الجوزة»، والتي صارت مع الوقت تعرف بمجزرة الجماليّة. مع ذلك، لم يخفّف هذا المرور من وطأة الذكرى. لا يزال أبو مكسيم يلجأ إلى هناك، كلما اشتدّ الحزن في قلبه. يجلس في المكان نفسه الذي جلس فيه ابنه فجر الثاني من آب من العام 2006. يسند رأسه إلى الجذع المبتور ويتذكّر ابنه الذي لم يكن قد بلغ بعد السابعة عشرة من عمره «النشيط. الذكي. لعيّب فوتبول من الدرجة الأولى وقائد لـ36 شاباً وصبيّة، كثيرون منهم يتجاوزون الثلاثين عاماً».
كان «مميّزاً»، يقول. لهذا، لم يسمّ أحداً من أحفاده مكسيم. لماذا؟ لأنهم «ليسوا ملكي، مكسيم كان لي، كنت أنا ربّه، أما أحفادي فهم لأهلهم وليسوا لي، ولن يحلوا مكانه». يسند يده إلى صدره، على ناحية القلب، ويقول «مكسيم هون»، وفيما لو فكّر بالزواج ثانية «فمن أجل أن أرزق بصبي وأسميه باسمه». لا يطاوعه هذا القلب بأنّ ثمّة أحداً سيعوّضه ابنه، ولو «كان النبي محمد، فعندما يقولون ما أغلى من الولد إلا الذي خلقه أقول لهم أنتم تكذبون. ما أغلى منو حدا».
تغرورق عيناه بالدموع، لكنها تنزل «لا أريد أن أبكي أمام أحد. أريد أن أبقى قوياً. بيّ مكسيم القبضاي». هل تبكي وحدك؟ نسأله، فيجيب بإيماءة من لرأسه، ويستطرد قائلاً «لحالي وعندما أصلي. خمس مرّاتٍ في اليوم أصلي فيها أعيش فيها مع مكسيم». ثم يبتسم ويقول «هل تعرفين بأنني بدأت بالصلاة بعد المجزرة لأجل مكسيم؟». منذ ما بعد المجزرة، صار كلّ شيء يقوم به المختار لأجل مكسيم، حتى عندما زارته مؤسسة الشهيد كي تكرّم أهالي الشهداء، علّق ما أهدوه إياه عند باب منزله، حيث تطالعك عند المدخل لافتة ترحّب بك في «منزل الشهيد مكسيم حسين جمال الدين الذي استشهد فجر الثاني من آب من العام 2006».
جلس تحت شجرة التفاح منتظراً طلوع الفجر كي يلملم الأشلاء

لا يزال كل شيءٍ في رأسه على ما هو. الليل «اللي ما عاد خلص» محفوظ بصورٍ وتفاصيل. يرويها كما لو أنّها تحصل للتوّ. يسند يده إلى جذع الشجرة، ويعيد سرد الحكاية: كنت أقف هنا. فوق رأس مكسيم الذي كان يجلس القرفصاء، فيما البقيّة يجلسون حوله. كان الليل موحشاً، تضيئه بين الحين والآخر ضربات الصواريخ التي كانت تسقط في محيط مستشفى دار الحكمة. كنا نبعد عن دار المستشفى مئات الأمتار، ولم يكن لدينا إلا سلاح واحد يحمله مكسيم. مع ذلك، كنا ننتظر مرور الإسرائيليين بالقرب من خط «سكّة التران»، لنخطف واحداً منهم ونفشل الإنزال. انقسمنا مجموعات. أنا وشقيقي قمنا بجولة على بيوت الأهالي لنطمئنهم. أذكر بأننا وقفنا على بعد أمتارٍ من دار المستشفى، وأني انحنيت على الأرض ووضعت أذني على حافة الطريق وصرت أسمع خبطات أقدامهم. كانوا كثراً. عدنا. في طريق العودة، سمعت شاباً يقول «قتلنا جلبوط وأخدنا جلبوط». بعد انتهاء الليل سيعرف الأهالي من هو هذا الشاب. كان اسمه رضا مدلج وسمّوه بعد استشهاده «شهيد الوعد الصادق». أما «الجلابيط»، فكانوا جنوداً إسرائيليين.
المهم، في تلك الليلة، أفشل «الجمّاليّون» إنزال دار الحكمة، الذي عرفوا في ما بعد بأنه يستهدف الشيخ محمد يزبك، «بحماستهم»، يقول المختار. لم يكن لديهم سوى «كلاشين» واحد و3 قذائف «روسيّة». يقول «رمى ابن أختي قذيفتين على دار المستشفى، فجنّ جنون الإسرائيليين وبدأوا يمطرون المحيط بالصواريخ»، كان من نصيب شجرة الجوز أمام بيت المختار سبعة صواريخ لم تبق من الجالسين تحتها أثراً. تطايرت الأجساد أشلاء. يتذكّر المختار بأنّه في تلك الليلة، جلس مع الشباب تحت الشجرة. تركهم «لحظة» قاصداً البيت المجاور. في تلك اللحظة، سقط الصاروخ الأول، تلته ستّة أخرى. حدث ذلك عند الثانية والنصف فجراً. استدار أبو مكسيم إلى الخلف، فرأى دخاناً كثيفاً وناراً تشتعل. ظنّ بأن البيت احترق بمن فيه. «أمسك» قلبه، ففي البيت ما يقارب 96 نازحاً. عاد أدراجه. وصل على مقربة من الشجرة وعرف بأنّ الكلّ مات تحتها. جلس تحت شجرة التفاح منتظراً طلوع الفجر كي يلملم الأشلاء. كتم سرّه خمس ساعات، خوفاً على القابعين داخل البيت.
في الصباح الباكر، صار يفلفش في بقايا الأشلاء المتطايرة. عرف من ابنه «قدمه اليسرى وجزءاً من ظهره». مع طلوع الشمس، دفن أهالي القرية أشلاء شهداء المجزرة، ثم أتاهم الخبر من «صحافي أجنبي» بأنّ عليهم أن يخلوا القرية لأنّ الإسرائيليين سيدمرونها لأنّ «فيها مصنع صواريخ». سمعوا الخبر ثم استقلوا السيارات المتوفرة وتوجهوا نحو بلدة راس بعلبك، ليعرفوا فيم ا بعد بأن المصنع الذي استهدفه الإسرائيليون ليس مصنع أسلحة لحزب الله وإنما «مصنع قساطل».
مع ذلك، لم يوفّر الإسرائيليون شيئاً هناك. «درزوا» محيط دار الحكمة بالصواريخ. وكان للجمالية الجزء الأوفر من الصواريخ، كونها الأقرب إلى المستشفى. وظلّت هذه القرية، التي يقول عنها ساكنوها القلائل بأنها كانت «فقط تقرب من المستشفى ولا وجود فيها لعناصر من حزب الله، بس كان فيها شويّة شيوعيين قدامى»، تتلقى الصواريخ حتى آخر لحظة في الحرب، حيث سقط على طريقها عقب أسبوع، 14 شهيداً آخرين، جلّهم من القوى الأمنية، كانوا يستقلّون باصاً لنقل الركاب. وكان من بين الشهداء «شقيق أحد الذين سقطوا تحت الشجرة».