«الأستاذ» نصرالله مسلماني

لم يرض الطفل نصرالله مسلماني أن تتغيّر هوية الصف الدراسي الذي أقام فيه، نازحاً من بلدته الشعيتية، مع عائلته في إحدى مدارس صيدا. أنشئت المدارس للتعليم، ولكلّ مناسبة مناهجها. وكما يحسن الأطفال انتقاد دروسهم الكثيرة، يحسنون أيضاً اختيار الدروس التي يرغبون في تعلّمها. هكذا، تجمّعوا حول زميلهم، ابن العشر سنوات، الذي راح يشرح لهم مجريات الحرب.
وقف نصرالله أمام اللوح، الذي دوّن عليه أحدهم بخط جميل «درس اليوم، الصمود»، وأخبرهم عن الطائرات الاسرائيلية التي قصفت مركز الدفاع المدني في صور، ولاحقت سيارات الإسعاف التي كانت تحاول نقل الجرحى والمصابين. بعدها أشار إلى رسم على اللوح، وبنبرة لم تخلُ من الخطابة، حدّثهم عن صاروخ من طراز «رعد»، أطلقته المقاومة باتجاه المستوطنات الاسرائيلية داخل فلسطين المحتلة. فتردّد اسم الصاروخ داخل مراكز إيواء النازحين، مولِّداً عندهم الأمل بهزم العدوان.. و«العودة إلى الضيعة» قال نصرالله، مشعلاً الحماسة لدى «تلامذته»... فدوّن أحدهم عبارة «الله يحفظ سيّد المقاومة حسن نصرالله».
هو السيّد نفسه الذي أعلن انتصار المقاومة في حرب عناقيد الغضب (نيسان 1996)، ما دفع بالمهندس محمد شفيق مسلماني يومها إلى إطلاق اسمه على ولده، تقديراً له.
نصرالله مسلماني، رفيق النازحين في يوميات العدوان، وشفيعهم في العودة الى بيوتهم، لا يزال صامداً في وطنه، ويتابع اليوم دراسته في إدارة نظم المعلومات في كلية إدارة الأعمال.

علي غريب: أشهد بجراحي

ظنّ علي، كما كثيرون، أن مركز الدفاع المدني في صور سيكون الملاذ الآمن الذي يُبعده وعائلته عن الموت الآتي من الطائرات التي تغزو السماء، فالتجأ إليه مع عائلته التي غادرت على عجل منزلها في منطقة الحوش، التي حوّلتها طائرات العدوان إلى جحيم، بحمم النار الملقاة على المناطق السكنية.
يومها لاحقت الطائرات المعادية سيارات الإسعاف المتنقلة على الطرقات، الأمر نفسه كان مع مركز الدفاع المدني الذي تحول إلى مركز لإيواء عشرات العائلات الهاربة من جحيم النار في قراها.
كان علي ابن الاثني عشر ربيعاً مع والديه وأقاربه، حين أغارت الطائرات في اليوم الخامس للعدوان على المركز. وكانت حصيلة العدوان عشرات الشهداء والجرحى. أصيب علي بجروح بالغة في وجهه وأنحاء من جسمه الطري. والده عباس غريب مسؤول مركز الدفاع المدني أصيب أيضاً، لكنه حمل جراحه ولاحق ابنه علي الذي خرج على عجل من الموت، ليخوض معركة البقاء بمسيرة طويلة من العلاج في الخارج، استدعتها حالته الحرجة.
بعد عشر سنوات على العدوان، يتابع علي غريب دراسته الجامعية، وخيوط حياة تنبعث من وجهه الذي شهد على وحشية العدوان. وهي الرسالة ــــ الصرخة التي أراد إيصالها الى العالم وفعل ذلك يوم جاء الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون الى بيروت عام 2009. التقاه علي ووجه له رسالة قال فيها: «لك سيدي وللعالم أجمع ، جئت لأشهد، وأنا أحد ضحايا العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006، أن من أورثني هذه الاعاقة هو نفسه في غزة يصنع إعاقات جديدة، من سرق مني فرح طفولتي، هو نفسه في غزة يسرق أحلام الأطفال، من أحرق منزلي وهدّم مدرستي وزرع الألغام في حقل والدي، هو نفسه في غزة يحرق ويهدم ويزرع الموت والحقد والدمار (…). أشهد يا سيدي، بجرحي المعلق في ذكريات طفولتي، بقلبي الذي أوجعه ولم يكسره الألم، طفل لبنان سيبقى يقاوم من أجل الحياة، وسينتصر».

أم ابراهيم قوصان: حياتها في «الزريعة»

في اللحظة التي سمعت فيها نداء السيّد حسن نصرالله للجنوبيين، الذين نزحوا من بلداتهم وقراهم، بالعودة سريعا إليها، عشية صدور قرار وقف الاعمال الحربية، حزمت أم ابراهيم قوصان الحاجيات القليلة للعائلة، وتوجهت صبيحة يوم الرابع عشر من آب 2006 إلى فرون، البلدة التي لجأت اليها في سبعينيات القرن الماضي، هرباً من الاعتداءات التي مارستها قوات الاحتلال الاسرئيلي على سكان بلدتها الحدودية عيترون.
أم ابراهيم، التي ودّعت عام 1983 ابنها عمار خليل قوصان، شهيداً في هجوم نفذته مجموعة من الحزب الشيوعي في شارع رياض الصلح في مدينة صيدا، ضد دورية لجنود الاحتلال، كانت من أوائل الذين لبّوا «نداء السيد» لتعود الى منزلها، الذي كان هدفاً ضمن «بنك المعلومات» الاسرائيلي. دخلت المنزل من جداره المهدم، وأصرّت على البقاء فيه «يبقى البيت هو المأوى الطبيعي لنا، على الرغم من تدميره»، قالت يومها.
عشر سنوات مرَّت... وأم ابراهيم التي اختبرت باكراً رحلة النزوح أعادت بث الحياة في بيتها. تمضي يومياتها بتفقد الابناء والأصحاب، وترعى حديقة المنزل بأشجارها وأزهارها المتنوعة، «رجعت ع البيت المدمَّر، لكن فرحتي كانت كبيرة، وإن كنت زعلت ع الزريعة التي ماتت عطشاً. بس رجّعتها افضل مما كانت، فطالما في زريعة بالبيت، في حياة وفي بقاء. فكيف اذا كانت المقاومة قد هزمت اسرائيل».