لا نعلم ما إذا كان موسى سيف (87 عاماً) لا يسمعنا بالفعل، بسبب فقدانه ٩٥ في المئة من سمعه اثر إصابته في مجزرة مروحين في عدوان تموز، أم أنه ادّعى ذلك هرباً من أسئلتنا التي تقرع ذكرى مرور عشر سنوات عليها. فيما كان نجله علي يروي لنا حروق قذائف البارجة الإسرائيلية وجهنم الدولة اللبنانية، كان موسى صامتاً، ونظراته تتخبط في الوجوه. يتكىء إلى كرسي وضع عليه باقة «زنزلخت» ليكش الذباب. يرمقنا بنظرات حزن وخيبة، ثم يغرق في شرود، قبل أن توقظه حركة من علي المندمج بإعادة تمثيل الواقعة. لعله كان مستاء من وجودنا أو كان مجبراً على البقاء. فهو لا يقوى على أن يستدير وحده عندما يشاء. يحتاج لمن يساعده على تحريك كرسيه المدولب وإنزال ما بقي من جسده بعدما بترت ساقاه من الفخذين بعد عشرة أيام على المجزرة.علي (32 عاماً)، كوالده، شهيد حيّ في المجزرة. قبل ظهر الخامس عشر من تموز 2006، انطلق من منزله في أم التوت، ليلاقي سيارة من نوع «داتسون ـ بيك أب» آتية من وسط البلدة في اتجاه صور. في اليوم الثالث للحرب، بات واضحاً أنه لم يبق أمام الأهالي سوى الهروب المكلف، أو الإختباء في البلدة الحدودية التي دخلها جنود العدو أواخر أيام العدوان. كان برفقة علي، والده ووالدته وخالته وزوجته وطفله ذو الاشهر الخمسة. في «البيك أب»، انحشر علي عبدالله مع ولديه وزوجة ابنه الحامل وأطفالها الأربعة ومحمد غنام ووزجته الحامل وأطفالهما الستة (أحدهم معوّق) وسناء العبدالله وأطفالها ومريم وزهرة وصبحة العبدالله.
عند كوع شمع، حيث أنشئت لاحقاً حديقة للأطفال، وعلى بعد أمتار من مركز قوات الطوارئ الدولية التي رفضت إيواء الأهالي، استهدفت البارجة الحربية «البيك أب». عصف القذائف ضرب السيارة التي كانت تحاذيه من الخلف. يقول علي: «سمعنا صوتاً قوياً، وملأ الغبار المكان. رأيت النار تشتعل في البيك أب. نظرت من حولي فوجدت أمي فوزية أبو هدلا ملقاة على وجهها ووالدي وخالتي لطيفة مصابين، فيما زوجتي وطفلي إصابتهما متوسطة. أنزلت والدي وخالتي ووضعتهما بجانب الرصيف. أما والدتي عندما أدرت جسدها، فلم أر ملامح وجهها التي أذابتها الحروق».
القصف تجدد على الموقع من المروحية، ما ضاعف عدد الشهداء. «طلبت من زوجتي أن تركض في اتجاه شمع لتوصل خبر المجزرة لمن تلقاه. من البيك أب، لم ينج سوى زينب والطفلتين لارا ومروى. ركضن بحثاً عن منقذ. أما أنا فارتميت بين الجثث، متمنياً لو أصبح بالفعل منهم. هم ماتوا وارتاحوا وأنا وحدي ألاقي مصيري المجهول». بقي علي مع والده وخالته في وضعية الموت حتى الرابعة عصراً عندما تمكنت سيارات الإسعاف من الوصول. خالته لم تصمد طويلاً استشهدت بعد ساعات. وهو في المستشفى، كان يئن، ليس من وجعه، إنما حزناً على زوجته وطفله لظنه أنهما استشهدا بعدما أخبره أحد الأشخاص إنه لم يلتق بهما على طريق شمع. إبلاغه في اليوم التالي أنهما على قيد الحياة، لم يخفف حزنه. والدته بقيت في السيارة 16 يوماً. بعد انتهاء العدوان، وجد أن جنود العدو دفنوها بجانب الطريق، وكتبوا فوق التراب بالعبرية «توجد امرأة». الذين بقوا أحياء في مروحين تشتتوا بين حقول التبغ والأقبية صموداً في أرضهم أو في مراكز النزوح. أما الشهداء، فقد استقروا بعد ثلاثة أيام في ثرى صور كوديعة استردوها في 25 آب.
بفضل الدولة، لا يحتاج علي لأن يستذكر المجزرة بعد مرور عشر سنوات عليها. بعد أشهر على المجزرة، حضرت القوى الأمنية لتسليمه ووالده بلاغاً لحضور جلسة تحقيق معهما امام اللجنة الطبية العسكرية في صور. فهما متهمان بتزوير تقارير طبية وادعاء إصابتهما في المجزرة للحصول على تعويضات من مجلس الجنوب (موسى قبض 15 مليون ليرة وعلي أربعة ملايين). رفض علي مثول والده. حضر بالنيابة عنه. بعد انتفاضة غضب فجرها مع شقيقته ضد الضباط أعضاء اللجنة وتقديمهما البراهين على أن والدهما شهيد حي، تفضلت الدولة وعفت عنه واعتذر الأعضاء.
أما علي، فلا يزال يحاول تبرئة نفسه، والقضاء يبحث في أمره. «في 10 تشرين الأول المقبل، عندي جلسة المحاكمة السادسة أو السابعة، لا أذكر، في النيابة العامة المالية في قصر العدل في بيروت. طوال سنوات المحاكمة، أنفقت أكثر من أربعة ملايين تكلفة النقل».
وفق التقاليد والتعاليم البشرية في مروحين، علي رجل المجزرة. كان الناجي الوحيد مع زوجته وطفله وثلاث فتيات. عليه أن يضبط فجيعته أثناء المجزرة وما بعدها. كان على قدر المطلوب، صلباً وصامداً ومتابعاً لشؤون دفن الوديعة ومتابعة الجرحى. له بين الحين والآخر وفي سره أن يمنح لنفسه حق الخوف والبكاء والكوابيس. زينب تقوى على التمرد. الشاهدة على استشهاد والدها وشقيقها هادي وزوجة أخيها وأربعة من أطفاله الذين ربتهم، أقلعت منذ سنوات عن المقابلات الإعلامية عن المجزرة. دفنت حزنها في قلبها وشمّرت عن سواعدها لتعيل نفسها ووالدتها بعد فقدان الأب وانشغال شقيقها الأكبر بهمّ عياله. زينب (27 عاماً) شهيدة حية ومزارعة تبغ. نلحق بها وهي تزور صديقتها. تجلس ضمن حلقة صبايا يدخنّ النرجيلة. تتمسك بالرداء الأسود وتكسر حزنه بشال ملون. لا نكاد نقترب منها حتى تنتفض قائلة: «لا، لا، خلص ما بدي أحكي بشي». لا يهدأ توترها إلا عندما نطمئنها الى أننا نسلّم عليها فقط. تستبدل غضبها بلطافة وابتسامة. يهمس لنا علي بأن أهل المجزرة المقيمين في المدن يجدون ما يشغلهم. أما زينب فمحاصرة بين الوحدة وقبور أحبائها ومواقع العدو قبالتها وغياب الأنشطة والمشاريع والسكوت القاتل عند الحدود في الصيف والشتاء.




المجزرة المستمرة على الحدود

«شو جايي تفتحيلنا جروحاتنا» يقول حسان اسماعيل بصوت متهدج وهو يجيب عن أسئلتنا عن واقع بلدات قرى الشعب الحدودية بعد 16 عاماً على التحرير و10 سنوات على عدوان تموز.
يعيدنا إلى السبعينيات ليبرهن لنا أن «الدولة والعدو متفقان على التجزير بنا، إما بالقتل أو بالحرمان، وإجبارنا على هجر أرضنا». ابن الزلوطية، كان مقاتلاً مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية كالمئات من أبناء يارين والضهيرة والبستان ومروحين.
باكراً دفعت يارين بالنيابة عن أخواتها ثمن التصدي للعدو الذي حاول إنشاء الجدار الطيب، ومدّ شبكة تطبيع مع البلدات الحدودية من الناقورة إلى شبعا. في 2 تموز 1977، هاجمتها قوتان من العملاء من علما الشعب غرباً ومن رميش شرقاً وقتلتا 15 من رجال ونساء وأطفال، منهم خالد عكاشة الذي كان يرعى قطيعه، ووضحة دياب الواقفة عند باب بيتها. دُمرت يارين وهجر سكانها وسكان جاراتها. عند تحرير عام 2000، عاد معظمهم ممن بقي في لبنان. شيّدوا البيوت وحاولوا افتتاح مشاريع اقتصادية، لكنهم اصطدموا بالخواء.
عاد السكون ليفترس قرى الشعب. «مثل حدا إجا وكبنا هون بآخر الدني وراح ونسينا» يصف اسماعيل ارتباط الدولة بهم. يشير إلى مستعمرة زرعيت التي شيدت فوق أنقاض طيربيخا (إحدى القرى السبع). «الباص التابع لشبكة النقل العام يحضر في موعده كل يوم ليقل المستوطنين». علي سيف يقول: «نحن ريف ووراءنا اسرائيل. أي معيشة ستزدهر؟». مع ذلك، غامر علي. اقترض من برنامج كفالات مبلغ 180 ألف دولار ورهن في مقابله كلّ ما يملكه، وأنشأ مشروع خيم بلاستيكية لزراعة الخضر على بعد كيلومتر واحد من الحدود. يقرّ بأنه غامر بلحمه الحي. «مغامرة تستحق لأبقى في أرضي ووفرت فرص عمل لخمس عائلات من مروحين بقيت في أرضها أيضاً».