ككل سنة في مثل هذا اليوم، ستقف حفنة من النساء والرجال الشرفاء في بيروت، على الرصيف المواجه لمدخل «قصر الصنوبر»، إقامة السفير الفرنسي، لتشهد بالحق، وتهتف للحريّة ولبنان وفلسطين. هؤلاء يحتفون على طريقتهم بذكرى الثورة الفرنسيّة. إنّهم هنا ليذكّروا المحتفلين في الداخل، ومن خلالهم الرأي العام الفرنسي والضمير العالمي، بالقيم الأساسيّة التي قامت عليها فكرة الجمهوريّة، أي الحريّة والعدالة. وليطالبوا بإطلاق سراح المناضل الأممي، جورج إبراهيم عبدالله الذي يحتفظ به النظام الفرنسي أسيراً ورهينة، منذ 13 أو 14 سنة على الأقل، من أصل 32، بشكل مخالف لكل الأعراف والقيم والشرائع. جورج هو الوريث الشرعي لقيم الثورة الفرنسيّة، والاحتفال يليق به، فيما «العيد الرسمي» خلف الأسوار، لم يبقَ فيه شيء من روح الثورة: انعزاليات تحنّ إلى زمن الانتداب، ورجعيّات تستمدّ قيمها «الروحيّة» من الفكر الوهّابي، في ضيافة حكومة «اشتراكيّة» تخون كل يوم، في سياساتها الداخليّة والخارجيّة، قضايا العدالة والحريّة.وبمعزل عن الظلم الشخصي اللاحق برفيقنا، والمأساة الإنسانيّة التي يعيشها، محروماً من حقّه في استعادة حياته بين أهله ورفاقه وشعبه، نعرف جميعاً أن هذا «الاختطاف الرسمي» لجورج عبدالله، بالنسبة إلى السيد الأميركي وتابعه الفرنسي، هو قرار رمزي. كلا ليس عقاباً على «جريمة» لم يرتكبها، ولو ارتكبها فقد دفع ديونه للمجتمع أضعافاً… ولا تحسّباً لتهديد قد يمثّله المناضل الستيني المعادي للاستعمار… بل إن حرمانه القسري من الحريّة فعل رمزي قبل كل شيء: إنّه انتقام الجبان المستقوي من فكرة المقاومة نفسها، عبر القهر والإذلال والتزوير. إنّه إصرار الطغاة الأعمى على قتل الفكرة، على الطعن في شرعيّة القضيّة، على مطاردة الشبح الذي يرعبهم. هذا هو منطق الاستعمار بامتياز. منطق المستبدّ الذي يشك بنفسه، ويخاف من جرائمه، فيزيد حدّة العنف، ويتلاعب بالقوانين، ليحصّن نفسه ضدّ صحوة الضحايا. المستبد والمحتل يلجآن دوماً إلى التقنية نفسها: تجريم المقاومين والمتمردين ونعتهم بالإرهاب. ألم تكن جميلة بوحيرد «إرهابية» ذات يوم في قفص المحكمة، أيّام الاحتلال الفرنسي للجزائر؟ وجورج، سَجّانه المسكين يريده عبرة لمن اعتبر!
والواقفون قبالة قصر الصنوبر، يجترحون بدورهم فعلاً رمزيّاً. بإمكاناتهم البسيطة يحافظون على وهج القضيّة. إذا كانت الثمانينيات قد ولّت بأساليبها «الثوريّة» التي تبدو لكثيرين منا قابلة للنقاش والمراجعات، فإن الظلم، هو، لم يتغيّر، والمقاومة ـــ على طريقة جان مولان ورفاقه ـــ حق شرعيّ يتجذّر في أرضنا، و«الملعونون في الأرض» يحاصرون سجن الباستيل الرمزي، وسيحرقونه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. جورج، ابن القبيّات، الذي خرج شاباً من الدائرة الضيّقة لطائفته، ليعانق فلسطين، ويهتف باسم العروبة، ويقاتل إسرائيل، أنجب أجيالاً من المقاومين والأبطال. لذا لا يزال يخيف مختطفيه، ويستدرّ حقدهم الأعمى. بمواصلة اختطافه، يكشف «الرجل الأبيض» صورته الحقيقيّة، ويفضح خوفه وضعفه وهزيمته المقبلة. إنّه، في جوهره، لم يتغيّر كثيراً منذ أيّام الجزائر. كأننا به يعرف، في قرارة نفسه، أن شيخ سجناء الرأي العرب، على موعد حتميّ مع الحريّة!