ناهض حتّر شهيداً لسوريا: النظام الأردني شريك في القتل | حين وصل ناهض إلى المستشفى، وهو ينازع بين الحياة والموت، كانت حالته حرجة. اضطر فريق من الجرّاحين، بقيادة الدكتور نبيه معمر، لأجل إنقاذ حياته، إلى أن يقصّوا مترين ونصف متر من أمعائه الدقيقة التي تمزقت بفعل الإصابات البليغة التي لحقت بالرجل على مستوى بطنه. كانت تلك أول محاولة اغتيال استهدفت حياة الزميل الشهيد ناهض حتر الذي بقي يصارع للنجاة بروحه أياماً وليالي طويلة في شهر آب 1998.لم تعد الحياة في عمّان آمنة بعد ذلك الاعتداء الآثم الذي قيّد ضدّ «مجرمين مجهولين». ولم تعد إمكانية التعبير عن الرأي، في الأردن، متاحة بحرية وتسامح. ولم تعد صحة ناهض الذي تضرر جهازه الهضمي بشدة، تسمح بالمكوث في البلد الذي أحبه، وناضل في سبيل رقيّه، ودخل السجن مذ كان فتى لنصرة قضايا الكادحين من أبنائه، وخاض المعارك للدفاع عن كيانه ووحدته وأصالته، وآمن بضرورة انخراطه في كفاح أمته ضدّ أطماع قوى من خارجها تحاول وأد آمالها، وضدّ حماقات قوى من داخلها تسعى إلى ذبح أحلامها.
تلقى ناهض حتر عرضاً كريماً من إدارة جريدة «السفير» للتكفل بمصاريف علاجه في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وللتعبير عن آرائه الجريئة على صفحاتها. فقبل الرجل العرض، واستقر به الحال في مكاتب الجريدة يتخذها مشغلاً ومسكناً معاً. لكنّ متاعب ناهض لم تنته بانتقاله من عمّان إلى بيروت، فسريعاً ما اكتشف صنفاً غريباً من الخصوم غير الذين عهدهم في الأردن، يتربصون به، ويتغامزون عليه. أولئك كانوا رهطاً يزايدون على الناس في كل شيء، ولا يعجبهم من الناس أي شيء، ويتسقّطون كلام الناس لتأويله أسوأ تأويل! وسرعان ما صارت التهم تكال لناهض كيلاً، فتارة يتهمونه بأنه «عنصري»، وتارة أخرى يقولون إنه «سحيج من يساريي البلاط الأردني»، وطوراً هو من أيتام «صدّام»، وطوراً آخر من «شبيحة النظام السوري»...
لم يدفع أحد من المزايدين عليك مثلَك من حريته فداءً لمعتقده

لم يدّع ناهض أنه منزّه عن الأخطاء، فشأنه كشأن الناس جميعاً يصيب أحياناً وقد لا يصيب، وقد تحمله بعض الحماسة في المدافعة، أو الشطط في التعبير إلى أن يقول ما يتلقفه الكارهون ليتحاملوا به عليه؛ لكنّ مجمل أطروحاته كانت حقاً، وغالبية مواقفه كانت صواباً. وكان أكثر ما اتهم به الرجل أنه يدافع عن نظام الملك حسين. وتصيّد المناوئون لناهض كتيّباً عنونه بـ«الملك حسين بقلم يساري أردني» (صدر عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، في سنة 2002). ولم يكن أغلب الذين اتهموا ناهض حتر بموالاة حسين قد قرأوا ما كتبه، أو لعلهم قرأوا ولم يريدوا أن يفهموا! فكيف يمكن أن يتهم عاقل رجلاً نزل في سجون الملك حسين ثلاث مرات، وهاجمه العاهل الأردني بقسوة في تشرين الثاني عام 1995، من على شاشة التلفزيون، ثم اعتقله في آب 1996 بتهمة «إطالة اللسان»، وحاكمه أمام محكمة أمن الدولة، ودفع بزبانيته إلى أن يطعنوه في بطنه بعد عامين... وكيف لمثل هذا الرجل أن يكون «سحيجاً»؟!
في كتابه عن الملك حسين، اتهم ناهض عاهل الأردن الراحل بأنه «كان يفضل أهل الولاء على أهل الانتماء، وجماعة الملق على جماعة الكفاءة، وأصحاب الولّاعات على أصحاب العقول، وخريجي الجامعات الأميركية على خريجي معاناة البلد» (ص 27). وفي ذلك الكتاب أيضاً، قال ناهض إنّ الأمير عبدالله (الملك في ما بعد) جدّ الملك حسين قدم إلى الأردن عام 1921 قادماً من الحجاز بتعلة «تحرير سوريا ولبنان من الاستعمار الفرنسي»، لكنه سرعان ما عقد اتفاقاً مع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل يقضي بإقامة إدارة محلية في شرق الأردن تحت رئاسته، يكون هدفها حماية الحدود الأردنية ــ السورية ــ الفلسطينية من هجمات الثوار العرب الذبن كانوا يتخذون من الأردن قاعدة لهم... ثم بعد ذلك اقترح عبدالله على الحركة الصهيونية منح اليهود حكماً ذاتياً في فلسطين، على أن تدعم مشروعه، وكان هذا أساس العلاقة بين الفريقين» (المصدر السابق ص. 79، 80)... وهذا غيض من فيض الإدانات التي ساقها ناهض ضد الحكم الأردني في محطات تاريخية كثيرة، مثل: سفاهته في حرب حزيران 1967، وانزلاقه في مأساة أيلول 1970، وتخاذله في حرب تشرين 1973، وتواطؤه مع السادات في مبادرته تجاه إسرائيل عام 1977، وهرولته نحو وادي عربة في 1994، وانقلابه على حلفائه العراقيين عام 1995... فكيف يكون من يقول مثل هذا الكلام عن شخص الملك «سحيجاً»؟!
ويتهم الكارهون ناهض حتر بأنه يسوّق لكيان وظيفي مصطنع (الوطن الأردني)، فيرد الرجل بجواب مفحم على مناوئيه: «تقولون إن الكيان الأردني مصطنع، ولكنّ هذه الصفة لا تميّزه، فهي تنطبق على جميع الكيانات العربية في آسيا على الأقل. وإذا كان «الكيان» مصطنعاً، فالبلد ليس كذلك، والناس ليسوا كذلك، وارتباط الناس بالأرض ليس كذلك» (جريدة السفير، 5 آذار 1999). ويتهم المبغضون ناهض بأنه «عنصري»، لا لشيء سوى أنه وقف ضد المشروع الصهيوني الداعي إلى أن يكون الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ودافع عن مقولة أن فلسطين (كل فلسطين) هي وطن الفلسطينيين... ويقول الذين كادوا له إنه «قُطري» يدعو إلى الالتزام بحدود سايكس بيكو، والحقيقة أن الرجل أكثر الذين آمنوا بخيار المشرقية، وبسوريا الكبرى، وأكثر من دعا إلى الانفتاح على العراق والوقوف بجانبه، والتحالف مع إيران والتواصل معها.
ولقد قالوا، وقالوا، وقالوا... ولكنّ أحداً من المزايدين عليك، يا ناهض، لم يدفع مثلك، من حريته، فداءََ لمعتقده، ولم يبذل من دمه ضريبة على مواقفه!
ظلمتَ كثيراً، يا ناهض، وأسيء فهم مقاصدك، وأسيء إليك... فما غيّرت وما أبدلتَ، وبقيت صادقاً صلباً شهماً شريفاً، وختمت حياتك شهيداً كريماً!
لك نعتذر، يا ناهض!... فسامحنا لأننا خذلناك، ولأننا لم نفهمك، ولأننا لم نقرأك بعقل مستنير وقلب سمح.