كل الرهانات، أو آخرها، على محاولة عرقلة الحل أو إجهاض التسوية، تبدو محكومة بالفشل. لكن الأخطر أنها قد ترتّب على مغامريها خسائر أكبر. علماً أن السوق حبلى بشائعات وأوهام ونظريات مؤامرة من شتى الأنواع... كلها مبنية على غرض واحد: منع لبنان من انتخاب رئيسه!أبرز الأوهام العائمة على عويل بعض السطحيات السياسية اللبنانية، أن حدثاً أمنياً ما سيخترق الأيام العشرة الفاصلة عن استحقاق 31 تشرين الأول، ويؤدي إلى تعطيله. طبعاً، ونظرياً، قد يقصد بالحدث الأمني عملية اغتيال. وهو ما يقع تحت باب المحظور والمحذور وما أبعد منهما. أما البعد الآخر المقصود بالحدث الأمني، أي محاولة التوتير أو خلق الاضطرابات أو إشعال الفتن، فيقع ضمن باب السراب المطلق. ذلك أن جميع اللبنانيين، كما جميع اللاعبين ضمن الحلبة اللبنانية يدركون أن اللعب بالاستقرار اللبناني خط أحمر مرسوم على الأقل منذ اندلاع الحرب السورية. لا بل هو خط أحمر يكاد يشكل نقطة من نقاط التوافق والإجماع الدوليين القليلة أو حتى النادرة. واشنطن وموسكو. الرياض وطهران. وكل طرف مؤثر يعلن جهاراً حرصه على هذا الخط. يكفي لمن لم يكتشف أو يدرك بعد، تعداد وظائف الحلبة اللبنانية، لمعرفة أولوية استقرارها الأمني. فهي ممر النازحين السوريين صوب الغرب. هذا الممر القادر على زعزعة أوروبا بكاملها ربما. وهي، في الوقت نفسه، ممر النازحين من سوريا إلى لبنان. وهو الممر الذي يبدو جزءاً أساسياً من رسم الحل في سوريا... ثم إن بيروت اليوم هي مطار دمشق الدولي. وهي مطارها بالاتجاهين... فضلاً عن تماس "داعش" على حدود، وحذر اسرائيل المتحول رعباً وجودياً على حدود مقابلة، لنتيقن أن المس باستقرار بيروت ممنوع منعاً باتاً!
أكثر من ذلك، يشير المطلعون إلى أن تحذيرات واضحة أعطيت للمعنيين حيال عدم المزاح أو التساهل في هذه المسألة. وقد انتظم الجميع تحت سقفها. حتى أن بعض الحوادث "الفردية" العابرة ليل الثلثاء الماضي، كانت كافية لتأكيد أمر عمليات الحفاظ على الأمن والاستقرار لمختلف الأطراف.
ثاني الأوهام العائمة على سطح الرهانات المقامرة، كان الكلام عن مواقف خارجية منتظرة، وتحديداً غربية، تحاول ابتزاز اللبنانيين باستقرارهم الاقتصادي والنقدي والمالي، مقابل إذعانهم وتخليهم عن حقهم باختيار رئيسهم. علماً أن هذا الوهم مرتبط إلى حد كبير بالوهم السابق. ذلك أن مسلّمة الاستقرار اللبناني، كخط أحمر ممنوع التلاعب به أو مسه من قبل أي هاو أو يائس أو مغامر أو مقامر، تنسحب على عنوان الاستقرار الأمني والعسكري، كما الاستقرار المالي والنقدي. لا بل إن هذا الشق من ثابتة الاستقرار، معني به الغرب أكثر من سواه. وهو ما تأكد طيلة الأعوام الماضية، عبر ظاهر غربي في ملاحقة تمويل مقاومة حزب الله من جهة، وحرص الجهات نفسها في العمق والآليات والإجراءات، على عدم ترك تلك الملاحقة تهدد الوضع المصرفي في لبنان، على اعتباره عامود الاستقرار المالي والنقدي فيه. حتى أن رسائل دبلوماسية وصلت إلى المعنيين في اليومين الماضيين، بهدف الطمأنة المباشرة. وهي رسائل تراوحت بين التهنئة الصريحة من موسكو، إلى التطمين الصلب من واشنطن، بأن أي خيار رئاسي لبناني، سيكون مؤازراً لخيارات دعم القوى المسلحة اللبنانية، ومساعدة الدولة اللبنانية على تمكين بناها كاملة... ولأن رجال المال أكثر الناس حساسية حيال تلك المناخات والاتجاهات والرياح، قيل إن نفحة من التفاؤل المالي ظهرت في أسواق بيروت في اليومين الماضيين. حتى أن سعر أحد الأسهم المدرجة في بورصة بيروت ارتفع في غضون هذه الفترة، بما نسبته 18 في المئة دفعة واحدة!
يبقى آخر الأوهام المكبوتة في بعض النفوس، أن الأيام العشرة الفاصلة ستحمل تدخلاً خارجياً مفاجئاً، يعيد خلط الأمور، ويعرقل المسار الرئاسي الذي انطلق، ويمنعه من الوصول إلى خواتيمة السعيدة قبل 31 تشرين الأول الجاري. وهو الوهم الذي يخفي عطبين اثنين متفاعلين: اولاً عطب مبدئي في النزوع الأحشائي صوب الوصاية. أي وصاية كانت. شرط أن تحرر البعض من القرار الوطني للقوى اللبنانية. وثانياً عطب عملي في خطأ التقدير وعقم القراءة السياسية وجهل المعطيات الإقليمية والدولية المتراكمة منذ فترة، والتي أدت فعلياً إلى تكوين هذا الهامش اللبناني الذي سمح بتبلور خيارات داخلية رئاسية، من دون الانقلاب على أحد، ومن دون الاستتباع لأحد.
على ركام تلك الأوهام الساقطة، تبقى حقيقة واحدة: أن تقاطعاً تاريخياً في الظروف والسياقات والمعطيات، الداخلية والإقليمية والدولية، أفضى في بيروت إلى ولادة توافق ميثاقي لبناني، يجمع أكثريات الجماعات اللبنانية. توافق بات شبه منجز. لم يعد ينقصه إلا خيار آخر المختلفين. وهو خيار وطني صحي سوي في حالتيه. فإما أن يكونوا جزءاً من الإجماع التسووي. وإما أن يكونوا مكوناً ضرورياً للتنوع الديمقراطي. وفي الحالتين، سيكون رابح واحد: لبنان.