في 6 أيلول الماضي عقد ممثلو هيئات أصحاب العمل المعروفة باسم «الهيئات الاقتصادية» اجتماعاً ناقشوا خلاله موضوع الفراغ الرئاسي وانعكاسه على المؤشّرات الاقتصادية. في نهاية الاجتماع، أصدر المجتمعون بياناً يحدد يوم 29 ايلول موعداً للتحرك، تحت شعار «رفضاً للشغور الرئاسي وتضامنا مع الاقتصاد الوطني وحماية للقمة عيش اللبنانيين». وقالت الهيئات إن «هذا التحرك خطوة أولى، من ضمن خطة التحرك المتدرجة التي ستنفذها تباعاً في الفترة المقبلة». أما التحرّك، فلم يكن متفقاً عليه، إذ سبق لرئيس غرفة بيروت محمد شقير وبعض ممثلي الهيئات أن ثابروا على طرح تحركات احتجاجية منذ بدء الشغور الرئاسي، إلا أنها لم تكن محور إجماع ممثلي الهيئات، فضلاً عن كونها غير مقبولة من بعضهم. كان شقير يحاول تنفيذ خطوة كبيرة مثل الإضراب أو العصيان المدني...لم يوفّر شقير فرصة للتذكير بهذه الطروحات إلا فعلها. وكان أبرز الأعضاء الناطقين باسم الهيئات. استخدم نفوذه كرئيس لغرفة التجارة في بيروت وجبل لبنان للحديث باسم الهيئات وكأنه رئيسها، إلا أنه لم يذهب إلى حدّ المجاهرة بذلك. في بعض الأحيان كان يوجه الدعوات عبر الهاتف لعقد الهيئات من دون علم رئيسها الوزير السابق عدنان القصار مستغلاً وجوده خارج لبنان. وفي أوقات أخرى كان يجري مشاورات مع ممثلي الهيئات عن هذه الخطوة أو تلك، أو يطلب منهم الاعتراض على البيانات وفرض تعديلات عليها لمصلحة الأفكار التي يريد تسويقها. الإضراب الأخير كان فكرته، تماماً كالعديد من الأفكار التي كان يطلب إدراجها في بيانات الهيئات عن «تعطيل» مجلس النواب ومجلس الوزراء. ففي كلا الحالتين كان المقصود بهذا التعطيل هو التيار الوطني الحرّ ومعه حزب الله. هما الطرفان المقصودان بهذا الكلام الذي يستند إليه للقول بأن لبنان مقبل على انهيار اقتصادي.
موقف الهيئات
في عهد الفراغ تجاذبته
الأطراف السياسية

ويقف إلى جانب شقير بعض ممثلي الهيئات. هم في غالبيتهم من المستوزرين الذين يعتقدون أن وجودهم ضمن الهيئات يجعلهم مرشحين حكماً لدى المراجع السياسية والطائفية التي ينتمون إليها. جلّ ما هو مطلوب منهم اتباع الموقف السياسي لشقير الذي يحمل كلمة السر «الحريرية» بسبب علاقته الوطيدة بمدير مكتب الرئيس سعد الحريري، نادر الحريري. شقير يستمدّ نفوذه من علاقته بنادر، وهي لم تكن شخصية فقط، بل كانت سياسية يغلب عليها طابع البزنس. نادر الحريري هو عراب وصول شقير إلى رئاسة غرفة التجارة، وهو المايسترو الذي يدير مجموعة حريرية من الزعماء المحليين ومن رجال الأعمال المسخّرين لتظهير موقف سياسي واحد.
وتحت عناوين التعطيل، كان شقير يعبّر عن مواقف سياسية مشتركة مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي. الأمر كان واضحاً تماماً، فعلى مدى اشهر الفراغ، كان الاتحاد العمالي العام شريكاً في غالبية مواقف الهيئات عن الفراغ الرئاسي وعن تعطيل مجلس النواب. الاتحاد العمالي ليس سوى إحدى الأدوات السياسية الممسوكة من الرئيس نبيه برّي، وهو كان شريكاً فاعلاً في هذه «الجوقة»، التي كانت تستخدم الفراغ الرئاسي في سبيل غاياتها السياسية. في حزيران 2015 كانت الهيئات والاتحاد شركاء في «بيال» تحت عنوان «نداء 25 تموز - قرار ضد الانتحار». التسمية كانت من بنات أفكار شقير، وهو أعلن أنها تأتي «في ظل عدم انتخاب رئيس الجمهورية، وتعطيل المؤسسات الدستورية ولا سيما مجلس النواب والحكومة».
ولم يكن تحالف الهيئات مع هيئات اقتصادية ذات تمثيل سياسي يقتصر على هذا الأمر، فعندما قرّر بري أن يستدرج التيار إلى عقد جلسة للمجلس النيابي، كانت الهيئات هي التي قامت بجولة سياسية تحذّر من إدراج لبنان على اللائحة السوداء لمنظمة التعاون الاقتصادي، ثم أكملت مهمتها في اتجاه قروض البنك الدولي التي يجب إبرامها في المجلس النيابي قبل فوات الأوان والتي كان يفترض أن تليها مبالغ كبيرة ستأتي إلى لبنان... يومها شارك التيار الوطني الحر في الجلسة ثم توقف الحديث عن الأموال التي ستأتي إلى لبنان. أصلاً أين هي هذه الأموال اليوم؟
إذاً، التحالف السياسي، إنطلاقاً من الهيئات ضد التيار الوطني الحرّ، كان واضحاً. شقير استخدم نفوذه باسم غرفة التجارة وباسم الهيئات، واستعمل موازنة غرفة التجارة من أجل رسم علاقات واسعة مع مجموعة من الإعلاميين للحصول على تغطية واسعة تتيح له إيصال الموقف السياسي بسهولة. وعمل أيضاً مع مجموعة من رجال الأعمال من أجل الحصول على دعم قطاعي واسع، وهو في المقابل وزّع عليهم الدعم عبر موازنة الغرفة التي يصرف منها أكثر من 770 مليون ليرة على الوفود والمعارض ونفقات السفر والتمثيل في الخارج... أما الإنفاق الاكبر، فكان لمصلحة شركة مقرّبة منه ومن نادر الحريري هي التي نفذت مشروع إعادة تأهيل مقر الغرفة بكلفة كبيرة بلغت 7.2 ملايين دولار، وهي التي تنفذ اليوم مشروع مقر الغرفة في جونية.
والأكثر دلالة على أن موقف الهيئات تتجاذبه الأطراف السياسية، هو أن الهيئات نفسها أصدرت بياناً في 30 أيلول، أي بعد يوم واحد على موعد تحرّكها، يتحدّث بلغة هادئة عن «فرصة تاريخية لإنتاج الحل المنشود قبل الجلسة 46 التي تقررت في 31 تشرين الأول المقبل... أثبتت التجارب أن لبنان محكوم بمنطق التوافق بعيداً من غلبة فريق على آخر». لم تذكر كلمة تعطيل مجلس النواب في هذا البيان، ولم يتطرق المجتمعون إلى لغة التهويل المعتمدة في البيانات السابقة، بل كان مهادناً إلى بعد الحدود إنسجاماً مع الموقف السياسي الحريري.
الوحيد الذي كان يلجم موقف الهيئات هو رئيسها الوزير السابق عدنان القصار، وذلك باعتراف خصومه ومؤيديه بين ممثلي الهيئات. الرجل كان يرى أن مواقف الهيئات لا تحتمل الانحراف السياسي، بل إن التوازن ضروري لإبقاء قوّتها ونفوذها. جرت محاولات عديدة للانقلاب على القصار في الغرفة، إلا أنه تمكّن من تعطيلها كلّها، وبات خصومه متمسكين برغبته في الاستراحة من الهيئات «في الوقت المناسب بعد انتخاب رئيس الجمهورية». أما شقير، وفق ما يتردّد، فهو قد ينال ترقية كبيرة من «رئيس غرفة بيروت» إلى «وزير».
أما باقي أعضاء الهيئات، الذين اتصلت بهم «الأخبار»، فقد أبدوا سرورهم لانتخاب رئيس للجمهورية، وبعضهم رأى أن المواقف السابقة جاءت بنت ساعتها، وموقف اليوم هو ابن اليوم. بعضهم أشار الى أن انتخاب رئيس للجمهورية لن يضخّ الحياة في النشاط الاقتصادي المتدهور بسبب الحرائق الإقليمية، ولن يعيد العلاقات المتدهورة مع الخليج، لكنه نقطة بداية. هذا الموقف يصدر عن الجهات نفسها التي كانت تسوّق للانهيار بسبب الفراغ والتعطيل.




هيئات لا هيئة واحدة

الهيئات ليست جمعية مرخصة وليس لها هيكل تنظيمي، بل هي عبارة عن تجمّع يضمّ 16 عضواً ممثلاً لهيئات أصحاب العمل في لبنان. الوزير السابق عدنان القصار يرأس الهيئات التي تضمّ: ممثلا عن كل من: غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال، غرفة التجارة والصناعة والزراعة في صيدا والجنوب، غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع، جمعية مصارف لبنان، جمعية الصناعيين اللبنانيين، جمعية تجار بيروت، تجمع رجال الأعمال في لبنان، جمعية شركات الضمان في لبنان، نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء، نقابة أصحاب الفنادق، المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين، الندوة الاقتصادية اللبنانية، اللجنة الوطنية لغرفة التجارة الدولية لبنان.