لم تقِ جدران الفصل التي شُيِّدت بين مناطق السُنّة والشيعة العراقيين من الهجمات الانتحارية، ولم يوقف جدار الفصل العنصري في أراضي فلسطين المحتلة المقاومة الفلسطينية، بل زادها إصراراً. كذلك لم تحلّ الجدران التي شيّدتها بريطانيا في إيرلندا، للفصل بين الكاثوليك والبروتستانت، النزاع بين المتحاربين. لم تُثبت جدران الفصل في العالم كلّه جدواها في الفصل أو العزل الحقيقي، بل كانت تزيد الشرخ وتُعمّق الهوة بين الفئات المتناحرة.لماذا زُنِّر مخيم «عين الحلوة» بجدار إسمنتي مُسلّح؟ ولماذا تلجأ الحكومة اللبنانية إلى خطوة ثبت فشلها؟ هل شُيِّد الجدار حديثاً أم أنّه كان موجوداً أصلاً وجرى ترميمه وتحديثه؟ ما الغاية من بناء الجدار: هل هو للفصل أم للحماية؟ وماذا اختلف على أهل المخيم قبله وبعده: ضُيِّق الخناق عليهم أم أنّ أثره نفسي فحسب؟ ولماذا لم يصدر استنكار رسمي واضح من الفصائل ونُسبت المواقف المعترضة إلى مصادر في عصبة الأنصار أو غيرها، باستثناء حركة حماس التي أعلن عدد من مسؤوليها معارضة إقامة الجدار؟ أكثر من ذلك، ما هو الدور الذي لعبته هذه الفصائل في بناء الجدار؟ لماذا ارتفعت الصرخة الآن، علماً أنّ عملية بناء الجدار بدأت منذ أكثر من عام وأُنجز القسم الأكبر منه؟ ومن المتضرر من بنائه: أهل المخيم أم الفصائل أم المطلوبون؟ وهل صحيح أنّ الجيش يُعدّ لعملية عسكرية تستهدف عمق المخيم؟
الإجابة عن هذه التساؤلات قد تقدّم صورة أوضح، بالتزامن مع الحملة التي انطلقت للتنديد ببناء الجدار الذي شُبِّه بالجدار الإسرائيلي. فما هي الحقيقة؟
لا شكّ في أنّ المطلب الرئيسي للجميع يركّز على ضرورة التعامل مع المخيمات الفلسطينية من منظار اجتماعي وتنموي، ويندد بالخيار الأمني في التعاطي مع لاجئي مخيمات الشتات. ولا شكّ في أنّ الحكومة اللبنانية تتحمّل المسؤولية الأكبر عن تردّي أحوال اللاجئين الفلسطينين، لكونها لم تبذل جهداً يُذكر للاستفادة من طاقات شبابهم. ولا شكّ في أنّ غياب العدالة الاجتماعية والقضائية عزّز ظلم وقهر شباب كُثر داخل المخيم وخارجه. لكن كل ذلك لا ينفي المسؤولية التي تتحمّلها الفصائل الفلسطينية، بعدما أسهم هؤلاء في تحويل مخيّمهم إلى بؤرة أمنية. ومن هنا، كانت البداية، بحسب رؤية الأجهزة الأمنية اللبنانية.
لا يعبأ ممثلو الفصائل إلا ببطاقات تسهيل المرور والرعاية الأمنية التي يحظون بها

«جدار عين الحلوة شيّدته الفصائل الفلسطينية بتخاذلها». عبارةٌ ترد على لسان مسؤول أمني رفيع في معرض الإجابة عن سبب بناء الجدار، الذي تعددت تسمياته: من «جدار الفصل» و«جدار العار» إلى «جدار العنصرية» و«جدار الحماية». والتسمية الأخيرة هي المفضّلة لدى الأجهزة الأمنية، باعتبار أنّ الغاية من بنائه «حماية المخيم من تسلل الإرهابيين». ويخلص المسؤول نفسه إلى أنّ الأوضاع الأمنية المتردية في المخيم أدت إلى المضي في قرار بناء السور، وبالتالي يكون المطلوبون هم الدافع الرئيسي . يقول مرجع أمني لـ«الأخبار»: «المعادلة سهلة أمام الفصائل الفلسطينية: سلِّموا الإرهابيين، يُزَل السور». ويضيف: «لماذا لم نبنِ سوراً لتسييج مخيمي المية وميّة والرشيدية؟ لأنّ اللجان الأمنية تُسلّمنا أي مطلوب يتورط في عمل أمني». وسأل: «هل القيادات الفلسطينية في عين الحلوة قادرة على ضبط المخيم؟ التجربة تقول إنّهم عاجزون إن أُحسِن الظن، ومتواطئون في أسوأ الأحوال. بل لا شك في أنّ معظم ممثلي الفصائل لا يعبأون بحال أهل المخيم. ولا يكترثون، ربما، إلا ببطاقات تسهيل المرور أو التسهيلات التي يحظون بها جراء تعاطيهم مع ضباط الأمن. ولو كانوا صادقين في اعتراضهم، وحرصاء على عدم خنق المخيم، فلماذا رضوا أصلاً بإقامته، ولماذا يتملّصون اليوم من المسؤولية عن الموافقة. ألم يكن هناك خيار آخر قبل بناء الجدار؟».
وتكشف المصادر أنّ المشروع أُقرّ منذ عام ٢٠١٠، لكنه بقي حبراً على ورق حتى العام الماضي، تاريخ المباشرة ببناء السور. وتضيف أنّ الجدار موجود أصلاً، ليس بشكله الحالي، بل على هيئة جدران تقابلها شباك متآكلة كانت تُسيِّج المخيم. وعزز المضي في تشييده تردّي الحالة الأمنية في المخيم على وقع الأحداث في سوريا. وتكشف المصادر أنّ كل الفصائل الفلسطينية استُشيرت قبل الشروع في بناء السور، مشيرة إلى أنّ استخبارات الجيش أخذت هواجس الفصائل في الاعتبار، وأجرت تعديلات عدة أثناء عملية البناء لتراعي خصوصية أهل المخيم. وتوضح: «لم نقترب من المخيم. لم يتغيّر شيء على أهل المخيم، فالمخيم كان مطوّقاً سابقاً، إنما الجديد سدّ الثُّغَر التي كانت تُستخدم للتهريب في البساتين». وتضيف: «أُنجز بناء السور في الجانب الشرقي للمخيم كاملاً ثم بُدِئ بالجهة الغربية المطلة على أوتوستراد الزهراني. لكن فوجئنا بالحملة، رغم أنّ جميع الفصائل كانت على دراية كاملة بتفاصيل المشروع». وتضيف: «كافة الفصائل الفلسطينية اجتمعت بمدير فرع استخبارات الجنوب العميد خضر حمود، ولا سيما المتحدث باسم عصبة الأنصار أبو شريف عقل ورئيس الحركة الإسلامية المجاهدة الشيخ جمال خطاب وأبو طارق السعدي ومنير المقدح وآخرون. وقد عُرِضت عليهم خرائط عن الجدار والأبراج، فلم يعترضوا إلاّ على قرب موقع أحد الأبراج من البيوت السكنية. واعتبروا أنّ بعض الأبراج تكشف بعض البيوت وتعرقل حركة ساكنيها، فجرى إبعادها وتعديل أماكنها برضى قيادات الفصائل وإشرافهم». لكن، هل يُعقل أن يؤخذ مئة ألف إنسان بجريرة عشرات المطلوبين فقط؟ تجيب المصادر بالقول: «لم يؤثّر الجدار على أهل المخيم. لم يكن المخيم يوماً من دون سياج».
وتذكّر المصادر الأمنية بأنّ الجدار جزء من مشروع متكامل لضبط الوضع الأمني في المخيم، كاشفة عن اقتراح قُدِّم إلى وزارة الداخلية لوقف العمل ببطاقة التعريف الزرقاء التي يمكن تزويرها بسهولة، وإصدار بطاقات ممغنطة بديلة منها. ورأت المصادر الأمنية أنّ «سكّة الحل تبدأ بتسليم المطلوبين». وأضافت: «المطلوب من الفصائل والقوة الأمنية حماية المخيم بالعمل على فكفكة الملفات الأمنية»، مشيرة إلى أنّ «العمليات الأمنية الخاصة الشبيهة بعملية توقيف عماد ياسين واردة في كل لحظة لحماية أهل المخيم والسيادة اللبنانية متى تطلّب الأمر». وختمت بأنّ «الملف الاجتماعي والملف الإنمائي يُعمل عليهما بعد إنهاء الملف الأمني».
وعلمت «الأخبار» أنّ اجتماعاً سيُعقد اليوم وغداً. الأول بين ممثلين عن حماس مع رئيس فرع استخبارات الجنوب العميد حمود، والثاني في السفارة الفلسطينية بحضور ممثلين عن الفصائل الفلسطينية واستخبارات الجيش لمناقشة الأوضاع الأمنية في المخيم.