لا شك في أن الدستور اللبناني، كما جرى تعديله بناء على مندرجات اتفاق الطائف، بات يحتاج إلى تطوير من حيث إستحداث آليات تسمح بتجنب الأزمات أو الحد منها قدر المستطاع، رغم أن دون هذا الأمر صعاباً تتعلق بطبيعة النظام الطائفية التي تجعل الصلاحيات من المواضيع الحساسة التي تستخدم للتحريض السياسي بدل أن تخضع لنقاش علمي رصين.
لكن المشكلة لا تكمن فقط في النصوص التي تحتاج إلى ورشة تعديل ومشروع اصلاحي كبير، بل في بعض الأحكام الدستورية الفرعية التي أثبتت الممارسة مدى خطورتها وقابليتها لتعطيل صلاحيات رئيس الجمهورية. وإذا كان من البديهي أن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية من شأنه ارساء قواعد جديدة للتعاطي مع رئاسة الجمهورية بحيث يأخذ موقع رئيس الدولة وزنه الحقيقي في هيكلية السلطات الدستورية، إلا أن بعض المعوقات تعترض طريق الرئاسة الأولى. لذا كان من الضروري استعراض نقطتين لهما دلالات مهمة في وقتنا الراهن.
يفرّق الاجتهاد الاداري في لبنان بين المراسيم العادية التي يصدرها رئيس الجمهورية بعد توقيعها من رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصين وتلك التي لا يمكن إصدارها إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. وقد رأى البعض أن هذا التمييز يعزز صلاحيات رئيس الجمهورية كون المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء تصبح نافذة حكما في حال امتنع الرئيس عن توقيعها خلال خمسة عشر يوما من تاريخ ايداعه اياها وفقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور.
وبالفعل من الأمور التي تتم مناقشتها اليوم قضية الانتخابات النيابية المقبلة في ظل رفض رئيس الجمهورية لاجرائها، وفقاً لما بات يعرف بقانون الستين. فالمادة 44 من القانون الرقم 25 الصادر في 8 تشرين الأول 2008، والذي جرت على أساسه انتخابات 2009، تنص صراحة على التالي: "تدعى الهيئات الناخبة بمرسوم" أي ان الدعوة تتم بمرسوم عادي يصدره حتما رئيس الجمهورية ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تخطي توقيعه.
وإذ يتسلح البعض بهذه الصلاحية لتأكيد قدرة الرئيس على منع اجراء الانتخابات، لا بد لنا من التذكير بالانتخابات الفرعية التي جرت سنة 2007 عن المقعد الذي شغر بعد اغتيال النائب بيار الجميل. فالمادة 7 من قانون الانتخابات النافذ حينها (القانون الرقم 171 الصادر في 6 كانون الثاني 2000) كانت أيضا تنص على أن دعوة الهيئات الناخبة تتم بمرسوم عادي. وقد رفض رئيس الجمهورية العماد اميل لحود توقيع ذلك المرسوم كون الحكومة كانت في نظره فاقدة للشرعية الأمر الذي دفع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى اتخاذ خطوة غير مسبوقة. إذ أقدم على عرض مرسوم دعوة الهيئات الناخبة على مجلس الوزراء واستحصل على موافقته، وهكذا تم ارسال المرسوم إلى رئيس الجمهورية بحيث تبدأ مهلة الخمسة عشر يوما بالسريان. وبالفعل صدرت الدعوة للانتخابات في 2 تموز 2007 على شكل مرسوم نافذ حكما حمل الرقم 493 ونشر في الجريدة الرسمية.
يشكل هذا الاجراء سابقة خطيرة، إذ انه يسمح بتحويل المراسيم العادية إلى مراسيم تسري عليها مهلة الخمسة عشر يوماً الدستورية، ما يسلب رئيس الجمهورية توقيعه ويجرّده من صلاحية مهمة أغفلها اتفاق الطائف. وما يزيد من صعوبة الأمر هو ان هذا الاجراء ليس مشوباً بعيب كاف يسمح لنا بالطعن بدستوريته. إذ يمكن ان يقال ان الدستور أناط صراحة السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء، وعملا بالقاعدة الشهيرة "الذي يستطيع الأكثر يستطيع الأقل" (qui peut le plus peut le moins) يجوز لمن يحق له اقرار المراسيم التي تتطلب موافقة الحكومة الصريحة أن يقر تلك العادية.
نقطة ثانية تضعف من صلاحيات رئاسة الجمهورية تتعلق بمهل نشر القوانين. فمن المعلوم أن القوانين التي يقرها مجلس النواب لا تصبح نافذة الا بعد اصدارها من قبل رئيس الجمهورية، أي توقيعها من قبل هذا الأخير واعطائه الأمر للجهات المختصة بنشر القانون وتطبيقه. وقد حدد الدستور للرئيس مهلة شهر كي يصدر القانون والا اعتبر نافذا حكما ووجب نشره. وبالفعل صدرت مجموعة من القوانين لا تحمل توقيع رئيس الجمهورية وهذا أمر مألوف في القانون الدستوري المقارن، إذ تفرض غالبية دساتير الدول مهلة معينة على رئيس الدولة بغية إصداره للقانون أو رده من أجل دراسته مجددا من قبل السلطة التشريعية.
المشكلة لا تكمن هنا في اصدار القانون من دون توقيع الرئيس بل في كيفية احتساب سريان المهلة. فالفقرة الأولى من المادة 56 من الدستور تنص على التالي: "يصدر رئيس الجمهورية القوانين التي تمّت عليها الموافقة النهائية في خلال شهر بعد احالتها الى الحكومة ويطلب نشرها"· المعضلة هي في تعبير "بعد احالتها إلى الحكومة". فعند اقرار الدستور سنة 1926 كان مصطلح الحكومة تعبيرا عاما يمكن تفسيره بالسلطة التنفيذية ككل أي رئيس الجمهورية والوزراء الذين يعاونونه في الحكم.
لكن بعد اتفاق الطائف تبدل الوضع. إذ أصبحت الحكومة عندما تجتمع في مجلس الوزراء تتولى السلطة التنفيذية، وبالتالي أصبح النص الدستوري الذي يتكلم عن احالة القانون الى الحكومة فيه شيء من الغموض. فبمجرد احالة القانون تبدأ مهلة الشهر (أو خمسة أيام في حال كان القانون معجلا) بالسريان حتى لو ظل القانون عالقا في رئاسة الحكومة منتظرا توقيع رئيس مجلس الوزراء عليه رغم ان رئاسة الجمهورية لم تستلمه كي تقرر توقيعه او رده. هذا الخلل في النص قد يعطل صلاحية مهمة جدا لرئيس الجمهورية ويمنعه من ممارسة رقابته الدستورية والسياسية على القانون. لا شك ان قيام رئيس الحكومة عمدا بتأخير ارسال القانون إلى الرئيس أمر لم يحدث وهو يؤدي إلى أزمة سياسية كبيرة في البلاد. لكن بقاء هذا الخلل يضع رئيس الجمهورية تحت رحمة الظروف ولا يحصّن صلاحيته بما فيه الكفاية لممارسة دوره المنشود والطبيعي كحكم بين المؤسسات، وحاكم عندما يتوجب الأمر ذلك.
لقد استعرضنا عينة بسيطة من هذه العوائق التفصيلية، لكن البالغة الأهمية. إذ قد تعطل مسيرة العهد وتحدّ من زخمه. صحيح ان بعض الشوائب الدستورية أكثر أهمية وتتطلب معالجة سريعة كالعمل على اقرار الموازنة وتعيين أعضاء جدد للمجلس الدستوري بعد أن انتهت ولاية الاعضاء الحاليين منذ زمن ليس بقصير. لكن الانكباب على دراسة تلك الثغرات الدستورية التي نشأت بسبب النصوص والممارسة يبقى أولوية نأمل أن يعيرها رئيس الجمهورية اهتمامه كي يحصن موقعه، ليس فقط اليوم بل أيضا في المستقبل.
*أستاذ جامعي