لم يعد سراً، ولا أمراً مشكوكاً فيه، سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى إقامة حلف إقليمي في المنطقة يضم إسرائيل وتركيا والمملكة السعودية والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة. ويجري الآن العمل على عقد مؤتمر للدول المذكورة، لم يحدد موعده بعد بشكل نهائي، لكنه لن يكون بعيداً. بضعة أشهر فقط لا أكثر.هذا يذكّرنا بمشروعات الأحلاف التي طرحتها الولايات المتحدة الأميركية في مطلع خمسينيات القرن الماضي.

يروي محمد حسنين هيكل، الذي كان مقرّباً من جمال عبد الناصر، أنه في شهر آذار/ مارس من عام 1953، حطت طائرة جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركية آنذاك في القاهرة. وعلى سلّم الطائرة، همس السفير الأميركي لدى مصر في أذنه قال: «إن الرجل القوي في النظام الجديد هو شاب اسمه جمال عبد الناصر وليس محمد نجيب». كان قد مضى على قيام الثورة في مصر تسعة أشهر فقط. طلب دالاس من سفيره أن يرتب له لقاء مع الشاب القوي. وإلى مائدة عشاء اجتمع أربعة: جون فوستر دالاس والسفير الأميركي وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وعرض دالاس فكرة إقامة حلف في الشرق الأوسط يرتكز على عواصم ثلاث: «أنقرة أكثر العواصم الإسلامية تقدماً، وكراتشي أكبر العواصم الإسلامية من حيث السكان، والقاهرة أكثر العواصم الإسلامية عراقة».
كان دالاس يخطط لاستكمال سلسلة الأحلاف لتطويق الاتحاد السوفياتي بها. وكان أيضاً يسعى إلى إدماج إسرائيل في المنطقة تحت علم الحلف المزمع إنشاؤه.
سأله عبد الناصر: ولكن لماذا هذا الحلف، ولمواجهة أي خطر؟
أجاب دالاس: الخطر الشيوعي.
رد عبد الناصر: كيف تريدني أن أرى خطراً مزعوماً على مسافة أربعة آلاف كيلومتر، ولا أرى خطراً حقيقياً على مسافة مئة كيلومتر؟
فشل دالاس في مصر جعله يستبدل بغداد بالقاهرة، وقام حلف بغداد أو «السانتو».
بعد ذلك بشهرين أو ثلاثة، قدمت إلى المنطقة بعثة أميركية جديدة اشتهرت باسم «بعثة جونستون»، كانت تحمل معها مشروعات للتنمية الاقتصادية بين إسرائيل والدول العربية. وطوال سنتين، ظلت البعثة تقوم بجولات مكوكية ما بين القاهرة وتل أبيب وعمان وبيروت. ومن ضمن ما طرحته آنذاك إقامة طريق بري يربط ما بين مصر والأردن فوق صحراء النقب. ثم عادت «بعثة جونستون» خائبة لأن جمال عبد الناصر رفض عروضها المغرية.
في عام 1958، على أثر ثورة العراق التي أطاحت النظام الملكي والرجل القوي في ذلك النظام نوري السعيد، سقط حلف بغداد. مؤسس دولة «إسرائيل» ديفيد بن غوريون بعث إلى الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور رسالة قال فيها: «إنه لمن الخطأ الفادح أن تفكر الولايات المتحدة بإقامة حلف في الشرق الأوسط يرتكز على أي عاصمة عربية. إن نظام الشرق الأوسط، لكي يحظى بالاستقرار وبالولاء للغرب، يجب أن يرتكز على عواصم ثلاث، أنقرة وتل أبيب وأديس بابا».

الشيعة بدل الشيوعية

في السنوات الماضية، ظهرت إلى العلن اللقاءات الكثيرة بين مسؤولين كبار في الدولة الصهيونية وأقرانهم في دول «الاعتدال العربي»، ومنها الأردن والسعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين، وما تسرب عن تلك اللقاءات يشي بقرب إعلان حلف الشرق الأوسط الجديد. وإذا كانت عواصم «الصمت» لا تتحدث كثيراً عن مضمون تلك اللقاءات، بل تكتفي بالتهويل والتخويف من «الخطر الشيعي»، فإن قادة العدو يجاهرون بالكثير مما دار في تلك اللقاءات. وأهم ما أفصح عنه هؤلاء، الآتي:
ــ إن علاقات تحالف استراتيجي باتت قائمة بين إسرائيل والأنظمة العربية المعتدلة، وخصوصاً السعودية ودول الخليج العربي.
ــ إن مقولة حل القضية الفلسطينية هو المدخل إلى «السلام» بين إسرائيل والدول العربية قد سقطت. أما المعادلة الصحيحة فهي أن «السلام» بين إسرائيل والدول العربية هو المدخل إلى حل القضية الفلسطينية. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن حل القضية الفلسطينية بالمفهوم الإسرائيلي هو تصفية القضية.
ــ أهداف التعاون أو التحالف بين إسرائيل والدول العربية «المعتدلة» هو التصدي للإرهاب الذي ترعاه إيران. أما المنظمات الإرهابية، بحسب التصنيف الإسرائيلي والعربي «المعتدل»، فهي حزب الله ومنظمات المقاومة في فلسطين.
إذاً، فإن الخطر الجديد الذي يبرر قيام هذا الحلف هو «الخطر الشيعي» عوضاً عن الخطر الشيوعي، ومحاصرة نظام ولاية الفقيه في طهران بدلاً من نظام البلاشفة في موسكو. وعلى غرار «بعثة جونستون» في خمسينيات القرن الماضي التي كانت تطرح مشروعات «للتنمية» المشتركة بين إسرائيل والدول العربية، تطرح اليوم مشروعات مماثلة، من أبرزها إنشاء سكة حديد: من حيفا، إلى إربد، إلى الرياض، إلى الخليج العربي.
تبقى مسألة واحدة لا يجوز إغفالها، وهي موقع إثيوبيا في خريطة هذا الحلف أو في خريطة «الشرق الأوسط الجديد».
من يتابع الفضائيات النفطية، وخصوصاً قناة «الجزيرة» القطرية، يلاحظ مدى الاهتمام الخليجي بسد «النهضة» الإثيوبي.
مشروع السد هذا قديم، يعود إلى خمسينيات القرن الماضي. وهو فكرة أميركية ــ إسرائيلية. الغاية منه محاصرة مصر وتهديد أمنها القومي. ألا يجيب هذا عن سؤال طرحه الأغبياء أحياناً وطرحه الخبثاء دائماً: «لماذا ذهب عبد الناصر إلى اليمن؟».
في الحقيقة، فإن كل كيس إسمنت يرسل إلى إثيوبيا لبناء سد النهضة مصدره المملكة العربية السعودية، وإن تمويل بناء هذا السد تتكفل به السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة. لماذا، وما هي الفائدة التي تجنيها هذه الدول من هذا السد؟ لنتذكر مرة أخرى رسالة بن غوريون إلى ايزنهاور التي أشرنا إليها سابقاً.

تدمير سوريا

إن ما تقدم يلقي الضوء على أحداث بدت مفاجئة، وقعت في الآونة الأخيرة، وعلى أحداث يجري التخطيط لها سوف تبدو أيضاً مفاجئة.
فجر يوم الجمعة في السابع من الشهر الجاري، شنت الولايات المتحدة عدواناً بصواريخ توماهوك على مطار الشعيرات السوري. وقد مهدت الولايات المتحدة لضربتها هذه بمزاعم ركيكة الحبك عن استعمال الجيش السوري للغازات السامة في خان شيخون. فلماذا شنت البحرية الأميركية هذه الغارة «المفاجئة»، والتي جاءت متناقضة مع تصريحات دونالد ترامب إبان حملته الانتخابية بشأن سوريا؟ ثم، وعلى أثر الغارة تلك، عاد المسؤولون في الإدارة الأميركية الجديدة إلى ما كانت تردده الإدارة السابقة قبل أربع سنوات، وهو أنه لا مستقبل للأسد في أي حل سياسي للأزمة السورية.
تعرف الولايات المتحدة جيداً أنه لا يمكنها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سوريا، لكنها تعمل على منع عقارب الساعة من التقدم إلى الأمام. هي تعمل على عرقلة الحل السياسي الذي ترتسم معالمه في الميدان، وعلى إشعال المزيد من الحرائق في سوريا. كل ذلك من أجل إشغال سوريا وحلفائها في الفترة التي تحتاج إليها لتظهير حلف الشرق الأوسط الجديد وإبرازه إلى العلن، وتعطيل قدرتها على عرقلة هذا المشروع.

... وجنون في لبنان

أما الأحداث «المفاجئة» التي يخطط لها العقل الأميركي ــ الصهيوني فهي ليست بعيدة عنا. ويبدو أن لبنان هو المكان الذي تم اختياره ليكون ميداناً لهذه الأحداث.
في 12 نيسان الجاري، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بكل أشكال الاستفزازات الطائفية، وبالدعوات للنزول إلى الشارع وقطع الطرقات. وبدا المناخ العام عشية 13 نيسان 2017 بالغ الاحتقان وينذر بشر مستطير، ما أعاد إلى ذاكرتنا ذلك المناخ الذي خيم على لبنان عشية 13 نيسان 1975.
الشعارات ذاتها. و«حقوق الطائفة» التي هب أصحابها لانتزاعها «مهما كان الثمن» هي مرة أخرى «الحقوق» عينها التي رفعها أولئك الذين أشعلوا الحرب الأهلية في عام 1975. والوعود التي أسرّ بها الأميركي لأصحاب الرؤوس الحامية والعصبيات المريضة آنذاك لم تعرف إلا بعد سنوات من الحرب والدمار والضحايا والدماء. اليوم، وبعد 42 سنة، لا يزال الأميركي هو هو، ووعوده لم تتغير. لكن المصيبة أن أصحاب الرؤوس الحامية عندنا والعصبيات المريضة لم يتغيروا أيضاً، وإن تغيرت أسماء بعض «الأبطال».
لنتذكر أنه خلف دخان الحرب اللبنانية جرى ترتيب عملية «السلام» المصرية ــ الإسرائيلية. ولا تزال الولايات المتحدة الأميركية شغوفة بـ«السلام»... بهذا النوع من السلام.
ولا يزال الوضع العام في لبنان خطيراً. أخطر بكثير من أن يترك أمره لعصبيات المتعصبين المهووسين، ولعبث الأولاد المدلوعين الذين يحبون اللعب على حافة الهاوية.