كتب مارون عبّود في «مناوشاته» الشهيرة، قبل 66 عاماً، مقالاً بعنوان «جيشنا». توجّه به إلى «النائب (كميل) شمعون» موبّخاً وساخراً وناصحاً، إذ كان الأخير «يُفزّع» الناس مِن الجيش اللبناني، وبالتالي «يُضعِف معنويات الجيش المُقدّسة».
إنّها قصّة معنويّات هذا الجيش، التي، كما يبدو، شغلت اللبنانيين منذ ولادته ولمّا تزل! يأتي عبّود في مقاله على ذكر «الكاتب العسكري» البريطاني الكابتن ليدل هارت، داعياً شمعون إلى قراءة ما كتبه، وهذا «لا شكّ أنّ الأستاذ (شمعون) قد عرفه حين مكث بلندن ثلاث سنوات ممثّلاً لبنان». يقول عبّود: «قال هذا الكاتب (ليدل هارت) بعدما استعرض جيوش الشرق الأوسط، بمناسبة ما تتمخّض به الأيّام مِن الأحداث الخطيرة: إنّ على الجيش اللبناني المؤلّف مِن خمسة آلاف جندي أن يحمي حدوداً طولها مئتا كيلومتر ونيّف، إلا أنّه ربّما لا يُمكن الاعتماد عليه في مقاومة طويلة النفس». كان هذا عام 1951. اللافت أن التعرّض للجيش، آنذاك، كان آتياً مِن طرف مسيحي قحّ، أي كميل شمعون، الذي سيُصبح بعد عام رئيساً للجمهوريّة. تغيّرت بلادنا، إلا أنّ مسألة الجيش، إيّاها، لم تتغيّر. ما زال الجيش «لا يُمكن الاعتماد عليه في مقاومة طويلة النفس». هكذا أُريد له أن يكون وهكذا كان.

«العالم الحرّ»
لا يُريد تسليح الجيش اللبناني حرصاً على
أمن إسرائيل. هذه حفظناها غيباً

لا أحد يتحدّث هنا عن العنصر البشري، إذ المسألة، كما يَعلم الجميع، في التجهيز اللوجستي. نقص التسليح. هذا هو «النشيد» الذي كبرت عليه أجيال ورحلت.
مناسبة هذا الحديث ما يَحصل، هذه الأيّام، عند السلسلة الشرقيّة لجبال لبنان، داخل لبنان لا خارجه، في البقاع عند جرود عرسال تحديداً. هناك حيث تدور معارك طاحنة بين حزب الله اللبناني مِن جهة، وجماعات مُسلّحة (القاعدة وداعش وما شاكل) مِن جهة أخرى. تلك الجماعات التي تحتل، منذ سنوات، تلك الأراضي اللبنانيّة، وقد فعلت ما فعلت بالجيش والقوى الأمنيّة والمدنيين، خطفاً وذبحاً وتفجيراً، ونجحت في جعل لبنان برمّته، مرّة تلو أخرى، يعيش «على أعصابه». أيّ لبناني اليوم، وحزب الله ضمناً، لم يكن يتمنّى أن يكون الجيش اللبناني هو مَن يقود هذه المعركة وفي الصفّ الأمامي؟ أيّ كائن لا يُحبّ أن يكون جيش بلاده قويّاً بما يكفي ليمنع عنه الغزاة أو يطردهم؟ أيّ مواطن لا يَرغب أن تُترجم الضرائب التي يدفعها أمناً وأماناً؟ نعم، الجيش حاضر في منطقة المعركة، وبكلّ ما لديه مِن قوّة، حيث يحمي عرسال مِن تسلّل المُسلّحين إلى المدنيين فيها. أمّا في الجرود فتلك مسألة أخرى. هناك تنسيق ميداني مع المقاومة على أعلى مستوى، صحيح. ربّما لا يكون هذا الحديث الآن في وقته. المعركة محتدمة. دماء شهداء المقاومة تُنزَف على تلك الأرض. ربّما هذا حديث لا يُرضي الجيش ولا المقاومة. لكن، أيضاً، لا يُمكن ترك المزايدين الفارغين، التجّار، يُشوّشون على الجيش والمقاومة معاً. لا يُمكن الصمت على تسميم الأجواء، بخبث، في ظلّ حالة وجدانيّة متأجّجة وسط بيئة مقاتلي المقاومة والمؤيّدين والمتعاطفين. حتماً، كلمات مِن هنا أو هناك لن تؤثّر على قرار المقاومة، ولا على معنويّات الجيش، ولذا ربّما يكون الآن هو الوقت المناسب لتذكير «تجّار الوهم» بحقيقة الوضع. الآن حيث الوجع... الوطني.
كم حُكي عن ضرورة تسليح الجيش سابقاً؟ أجيال شابت على هذا الدعاء. أميركا وبريطانيا وفرنسا لا تريد تسليح الجيش. ما العمل؟ هل لدى الجيش طائرة حربيّة واحدة لشن غارة على معاقل المُسلّحين هناك؟ كلّا. «العالم الحرّ» لا يُريد تسليح الجيش اللبناني حرصاً على أمن إسرائيل. هذه حفظناها غيباً. عندما تأتي دولة أخرى، مِن خارج منظومة هذا العالم، وتعرض تسليح الجيش، ولو بالمجّان، فإنّ عرضها يُرفض. المسألة تبدأ في السياسة وتنتهي في السياسة. يَكتب النقيب فؤاد عوض عام 1973 الآتي: «كانت قضيّة تسليح جيشنا الصغير هي شغلنا الشاغل. ومنذ سنة 1955 أي منذ أن أصبحتُ في الأركان وأنا أتلقّى الرسائل بهذا الخصوص. تعاقدنا في تلك السنة مع فرنسا لشراء بعض الأسلحة الخفيفة ودفعنا قسماً مِن الثمن، ولكن فرنسا تمنّعت عن تسليمنا السلاح المتّفق عليه، متعلّلة بأن حالة الشرق الأدنى المتوترة لا تسمح بذلك، وأنّ هناك اتفاقاً بين الدول الغربيّة على فرض حظر إرسال السلاح». يُمكن للجيش اللبناني أن يُصدّر شجاعة إلى العالم، وليس في هذا مبالغة عند مَن يعرفه، وقد خبرناه غير مرّة، ولكن ما العمل إن كان العالم لا يُريد أن يُصدّر إليه السلاح (اللازم)؟ لهذا، أصلاً، هنالك مقاومة. لو كانت هنالك دولة، حقيقيّة، ذات نزعة سياديّة فعليّة، لا إنشائيّة ــ فولكلوريّة، لما كانت نشأت مقاومة شعبيّة أساساً. هذه تُدرَك بداهة. هذا هو لبنان. هذا وفارس سعيد يُغرّد أخيراً: «التسليم بأنّ حزب الله يحمي لبنان خطير لأنّ مَن يحمي الأرض يَحكمها. نُريد دولة». فليُناوله أحد ما دولة.