يعود أحد السياسيين إلى تصريح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل زيارته لمصر في شباط الفائت، من أجل فهم الانعكاسات السياسية للمعركة العسكرية التي يخوضها حزب الله في جرود عرسال، ولا يقف الجيش بمعزل عنها، منذ اليوم الاول. وبعيداً عن المزايدات في الدفاع عن الجيش، والموجبات الضرورية لشنّ المعركة من أجل تطهير المنطقة من جبهتي النصرة وداعش، ثمة ارتدادات سياسية لهذه المعركة بدأت آثارها تظهر تباعاً.
في شباط الفائت، قال عون إن «الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل، فنحن نشعر بضرورة وجود هذا السلاح (سلاح حزب الله) لأنه مكمل لعمل الجيش ولا يتعارض معه». واستطرد رابطاً بين الطرفين قائلاً «لم يتدخل حزب الله في سوريا إلا بعد أن عانى لبنان من مشاكل مع الارهاب الذي تسلل الى أراض لبنانية، ومنها عرسال ووادي خالد. فهناك مستودع إرهابي في سوريا يورّد الارهابيين الى لبنان، وبعد تحرير القلمون، انخفض منسوب الخطر الارهابي على لبنان، ويعمل الجيش اللبناني على مواجهة الارهابيين في الاراضي اللبنانية».
لم تتمكن العاصفة التي تلت هذا الكلام من تغيير رؤية رئيس الجمهورية لدور حزب الله في مواجهة إسرائيل والتنظيمات الارهابية معها. ورغم أن هذا الكلام قيل قبل ستة أشهر، إلا أن ما يجري اليوم في جرود عرسال يمكن وضعه في الإطار الذي رسمه عون لدور حزب الله والجيش، وحدد فيه «رسمياً» بعد انتخابه، مستوى علاقته مع الحزب التي لم يتراجع عنها. ولكنه يأتي أيضاً في المقابل استكمالاً للصيغة التي أرساها حزب الله في علاقته مع عون.

أعطى رئيس الجمهورية مظلة الحماية للجيش وحمى الجيش نفسه بالعلاقة الكاملة مع عون


ليس صحيحاً ما تقوله بعض الاوساط السياسية عن غرق حزب الله في الاستراتيجية الاقليمية ورمال المنطقة المتحركة وانصرافه عن الشأن الداخلي. لا بل العكس هو الصحيح، فإن انغماسه في الوضع المحلي والقرارات التي اتخذها، جعلاه يحمي نفسه وظهره من أي تبعات داخلية لدوره الاقليمي ومستقبل هذا الدور وسط الترتيبات التي تُعدّ للمنطقة. من هنا يفهم إصرار الحزب على مجيء عون رئيساً للجمهورية وتمسّكه به حتى النهاية، رغم كل ما اعترض هذا الترشيح من عثرات وعراقيل وخطوات كان يمكن أن تؤثر على خياراته، كترشيح الرئيس سعد الحريري لرئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، الحليف الآخر للحزب. ظل حزب الله على موقفه من ضرورة انتخاب عون، وفي المقابل بقي الأخير قبل انتخابه وبعده على موقفه من الحزب ومن الرؤية الاستراتيجية لدور الحزب في لبنان والمنطقة. ورغم كل ما حاكه رئيس الجمهورية من تحالفات على طريق انتخابه رئيساً ومن ثم تشكيل الحكومة، سواء مع القوات اللبنانية أو الرئيس سعد الحريري، لم تتأثر علاقته مع الحزب، ولم يخرق التفاهم بينهما، خصوصاً في الشق المتعلق بدور الحزب العسكري جنوباً وعلى الحدود الشمالية. ويظهر بوضوح أن ما جرى لاحقاً، كرّس مستقبل هذه العلاقة وإطارها، حين جاءت التعيينات الأمنية، ولا سيما في قيادة الجيش التي اختارها عون بنفسه، لتعكس واقعاً جديداً ربط الجيش كلياً برئيس الجمهورية، ما وضع قيادة الجيش بمنأى عن أي تجاذبات سياسية، كما وضعها كلياً بمنأى عن محاولتها التقليدية تحقيق توازن في العلاقة مع كافة السلطات والمرجعيات، والدليل ما حصل في لقاء السراي الحكومي الأخير بين الحريري وقائد الجيش العماد جوزف عون في حضور وزير الدفاع يعقوب الصراف. أعطى رئيس الجمهورية مظلة الحماية للجيش، وحمى الجيش نفسه بالعلاقة الكاملة مع عون، في حين أبقت الحكومة نفسها بعيدة عن هذا المسار، وعزل الحريري أيضاً نفسه عن ترتيبات هذه العلاقة، إذ إنه أدرك موجبات البقاء بعيداً، ليس لأسباب التهدئة الداخلية فحسب، بل أيضاً لأنه لمس أن اللعبة السياسية باتت أكبر من مجرد تفاهم على حصص حكومية ونفطية ومالية، وتعويم وضعه كرئيس للحكومة.
جاءت معركة عرسال واضحة بمعالمها، وحدّد الأمين العام لحزب الله الساعة الصفر لها، ولم يكن الجيش بعيداً عن المعركة، ولا حكماً رئيس الجمهورية الذي يطّلع على كافة مجرياتها. لكن الحكومة كسلطة تنفيذية، ما عدا الوزير معين المرعبي، تظهر كأنها غير معنية، في وقت يلتقي فيه رئيسها الرئيس الاميركي دونالد ترامب، في إطلالة خارجية من المبكر جداً الكلام عن فائدتها.
هذه العلاقة الثلاثية بين رئيس الجمهورية والجيش وحزب الله، ستكون هي المحور السياسي من الآن فصاعداً في قراءة أي تداعيات سياسية لما جرى ويجري في الجرود، بعد انتهاء المعركة مع النصرة وعلى أبواب المعركة مع تنظيم «داعش»، ولا سيما لحساسية الوضع الجغرافي حيث تمتد قرى القاع ورأس بعلبك. ودقة هذه المرحلة تكمن في أن خطورة المعركة المتوقعة مع «داعش»، بانفلاشها وتبعاتها الامنية والعسكرية والاحتمالات الخطرة التي قد تتعدى الجرود، الى الداخل اللبناني. وحينها يخشى ألا يبقى الصمت الحالي (صوت المستقبل العالي يغطيه انكفاء الحريري) على حاله حيال مجريات التطورات العسكرية، ومدلولاتها السياسية، إن لجهة ترتيب الوضع على الحدود، أو وضع تصور لمرحلة سورية ولبنانية جديدة. فالواقع الأمني والعسكري سيُقرأ من الآن فصاعداً من منظار العلاقة الثلاثية بين رئيس الجمهورية والجيش وحزب الله، التي يعترض عليها البعض من السياسيين، ومحاولة الحزب الاستثمار سياسياً في ما سيحققه من هذه المعركة داخلياً وإقليمياً. والمشكلة ليست في الاستراتيجية التي يرسمها حزب الله للبنان ولدوره فيه والمنطقة، بل في غياب الاستراتيجيات عند الأطراف الآخرين المشغولين بتقاسم الحصص والإعداد للانتخابات.