لا يوجد خونة في لبنان. لا يوجد خونة في العالم. لا وجود لمفهوم الخيانة أصلاً. هذا ما تحاول بعض «النُخَب» السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة التأصيل له، كقيمة أخلاقيّة بديلة، في بلادنا. الحديث، هنا، عن «الخيانة الوطنيّة»، أو الجماعيّة بمعنى أوسع، لا تلك الفرديّة التي تعني «العشّاق». الخائن، العميل، الجاسوس، لو استطاعوا لشطبوا هذه الكلمات مِن قاموس اللغة.
مِن سوء حظّهم أنّ ما مِن لغة، منقرضة أو حيّة، عند كلّ الأمم، إلا واتسع وعاؤها لتلك المعاني. لسان العرب، الكتاب، أفرد للخيانة «مسألة». يزداد سوء حظّهم أنّ التاريخ أسقط تلك المعاني على أفراد بعينهم، طبعهم بها، إلى الأبد، منذ ما قبل «بروتوس». منذ قرون والعرب يَرجمون «أبي رغال» في الصحراء، الخائن، على أنّه «الشيطان». أصبحت «البيتانيّة» في العصر الحديث سُبّة في فرنسا. أصبح الماريشال فيليب بيتان رمز الخيانة بعد الحرب العالميّة الثانية بعدما كان، في الحرب العالميّة الأولى، بطل «فردان» في وجه الألمان. كثيرون مِن الفرنسيين دافعوا عن بيتان، وحاولوا بكلّ ما أوتوا مِن قوّة إبعاد تُهمة الخيانة عنه، بل إبعاد «مبدأ التخوين» أساساً، بحجّة «الظروف» الحاكمة، إذ كانت «المسلّة تنعرهم»... لكن في النهاية أصدر التاريخ حكمه.
بالمناسبة، تلك «النُخَب» اللبنانيّة المُحدّدة، وبعد تأمّل خطابهم، نجدهم ليسوا ضدّ «التخوين» كمعنى، بل ضدّه كلفظة، إذ هم يُمارسونه ليل نهار ضدّ خصومهم. يتّهمون الآخر بأنّه «ورقة» في يد إيران، مثلاً، وأنّه «صاحب مشروع» يَعمل لمصلحة الخارج ضدّ الداخل، لكن عندما يخرج عليهم مَن يُبادلهم «التُهمة» نفسها، مع فارق استخدامه مصطلحات تاريخيّة واضحة، لا تحتمل أيّ تأويل، مثل خيانة أو عمالة، فعندها تقوم قيامتهم. يبدأون، في مظهر يستدعي الشفقة، بالتظلّم والولولة والتفجّع. إنّهم يُجيدون لعب هذا الدور. إنّهم يستفيدون مِن «شيطنة» مفردة العميل، التي أصبحت كذلك على نطاق واسع، حقيقة، بفعل الإفراط بها مِن قبل الأنظمة العربيّة على مدى العقود الماضية. صحيح، كثيرون ظُلِموا بها، لكنّها لم تكن دائماً ظالمة. تلك «النُخَب» حاولت وتُحاول الاستفادة مِن تلك السقطات، وقد عوّموها، للوصول إلى شطب مفهوم العمالة مِن أصله. كم كانت «التكنولوجيا» الحديثة مُسّمة لهؤلاء، إذ عاشوا في زمن «ويكيليكس» وأخواتها، فقرأ العالم كلّه عمالتهم الواضحة الصريحة المباشرة. لهؤلاء أن تمتلئ قلوبهم غيظاً مِن أمثال جوليان أسانج. لقد وجدنا عمالتهم على شكل وثائق دبلوماسيّة رسميّة مُسرّبه، مؤرّخة، ومتى؟ في أصعب ظرف يُمكن أن يَعيشه شعب. في أيّام تمّوز، مثلاً، حين كانت تغير الطائرات الإسرائيليّة على عظام الأطفال بينما هم، في الساعة نفسها، في اللحظة نفسها، يَجلسون في مكاتب السفارات ويَطلبون «المزيد مِن القتل». أمّا إفشاء أسرار الدولة، إن كان مِن أسرار، فهذه تحصيل حاصل. هؤلاء أنفسهم يُمثّلون أنّ كلمة عميل تُغضبهم وتُفقدهم صوابهم! مرّة أخرى، إنّهم بارعون في التمثيل، وهذا يُسجّل لهم. الطرف الآخر لا يُجيد ذلك. وبالمناسبة، هذا ليس مدحاً للطرف الآخر. إنّه طرف لا يُجيد لعبة الإعلام، أدواته مختلفة، بل قبل ذلك، وهذا الأهم، ذهنيّته مختلفة. لهذا أسباب كثيرة ليس هنا مكان بحثها.
مسألة أخرى، ليست بالضرورة كلّ عمالة خيانة. أن تَعمل لمصلحة دولة خارجيّة ضدّ شعب أنت، لسببٍ ما، محسوب عليه، أو تَعمل حتّى لمصلحة العدوّ مباشرة، فهذه ليست بالضرورة خيانة. ربّما لم تجمعك بمن تَعمل ضدّه، الآن، أيّ رابطة في السابق. أمّا أن تخون فيعني أنّك توافقت مع الآخر على عهد ما ثمّ خرجت مِنه، بإرادتك، أذيّة له. هل يوجد في لبنان خونة بهذا المعنى؟ مَن هم ضدّ «محور المقاومة» مثلاً، كسمير جعجع، هل كانوا يوماً مع هذا المحور حتى يُقال خونة؟ هناك خونة بهذا المعنى، صحيح، نعرفهم جيّداً، ولكن ليس كلّهم كذلك. إنّهم «أعداء». هكذا نكون تصالحنا مع اللغة أولاً. بالمناسبة، هؤلاء ينظرون إلى الطرف الآخر، الذي يعيش معهم، كعدوّ أيضاً. العداوة هي الحاكمة في بلادنا، في العمق، إنّما ولأسباب قهريّة، واقعيّة، يُستفاد مِن اللغة لخلق توصيفات تُساعد على هدنة، بفعل موازين القوة الراهنة، فيستمر ذلك إلى حين حصول تغيّرات كبرى ليثب عندها هذا بسيفه على ذاك. هكذا تدور أيّامنا. يُمكن التعايش مع هذا التكاذب الجميل، صحيح، ولكن، في مطلق الأحوال، لا ينبغي لهذا أن يُنسينا الواقع القبيح. الكلّ يتّهم الكلّ في لبنان. الكلّ يَستبطن عداوة بنسبة ما. الكلّ عميل بالنسبة إلى الآخر. الفارق أن هناك مَن يَنوح كالثكلى، أو كصبي أُخِذت لعبته، فيما يبلعها الطرف الآخر متفرّغاً لـ«مشروعه». ثمة فارق آخر، إذ أن هناك مَن ينطق بها بمصطلحات نخبويّة حديثة، بينما ينطق بها آخرون بمصطلحات أصيلة، فجّة، مباشرة، واضحة... فطوبى للواضحين.