لم يكتف بنيامين نتنياهو بسلسلة المواقف التي أكد فيها أهمية دور «داعش» في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية العامة لمواجهة محور المقاومة وحزب الله، («الأخبار»، ٢٢ آب ٢٠١٧). بل كرر قبل أيام، في مقابلة مع قناة «20» العبرية، موقف إسرائيل المعارض للقضاء على هذا التنظيم، واصفاً ذلك بأنه «أمر سيئ» لإسرائيل. وأسهب في وصف المخاطر المترتبة على تراجع سيطرة «داعش» والقضاء عليه، لافتاً إلى أن «إيران تنتهج التسلل المنتظم الى المناطق التي يتركها» التنظيم الإرهابي.
وأقر نتنياهو، ضمناً، بأن «داعش» كان يضطلع بدور السد الذي يحول دون تعاظم التهديد المحدق بإسرائيل، محذراً من «مخطط إيراني يهدد إسرائيل ودول المنطقة» في المرحلة التي تلي «داعش».
إصرار نتنياهو على التمايز عن الإدارة الأميركية في الموقف من القضاء على التنظيم المتوحش، ينطلق من إدراك المؤسستين السياسية والعسكرية في تل أبيب ضيق الخيارات الإسرائيلية في مرحلة ما بعد «داعش»، ومن أن أي خيار بديل آخر مفترض لن يرتقي الى مستوى الخدمات التي وفّرتها لإسرائيل التنظيمات الإرهابية على الأرض السورية.
صحيح أن فشل التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية في استشراف مستقبل المسارات الميدانية والسياسية في الساحات السورية واللبنانية والإقليمية كان ذريعاً، شأنها شأن بقية الأجهزة الغربية والإقليمية. لكن مشكلة إسرائيل لا تكمن فقط في أنها اكتشفت متأخرة خطورة نتائج المشهد الميداني والسياسي الإقليمي الحالي، وما ينطوي عليه من مسارات مستقبلية، بل إن جوهر المشكلة يكمن تحديداً في القيود التي تردع صانع القرار السياسي والأمني الإسرائيلي عن المبادرة العملانية بما يؤدي الى تغير مسار التطورات، ويحدث انقلاباً في موازين القوى، وتحديداً في الساحة السورية.
قد يكون مفهوماً أن تقف إسرائيل موقف المتفرج في الأشهر الأولى من بدء الأحداث السورية، إذ إن التقديرات في تل أبيب والعواصم الإقليمية والدولية كانت مطمئنة الى أن سقوط الرئيس بشار الأسد وإحلال نظام سوري في دمشق معاد لحزب الله ومحور المقاومة لم يكونا سوى مسألة وقت لا يتعدى الأشهر.
إلا أن تدخل حزب الله وحلفائه الإقليميين لدعم الجيش السوري، وهو أمر لم يكن محسوباً ومقدراً جيداً في إسرائيل، أطاح الآمال والرهانات الإسرائيلية. وما حسبته إسرائيل، في حينه، إشغالاً لحزب الله في سوريا يمهّد لاستنزافه والانقضاض عليه في لبنان، تحوّل لاحقاً الى تهديد، بعد نجاح الحزب والجيش السوري والحلفاء في قلب المعادلات الميدانية.
المعضلة الاستراتيجية الإسرائيلية لا تقتصر فقط على فشل الرهانات على الجماعات المسلحة في الساحتين السورية واللبنانية، وتحديداً «داعش»، في تحقيق ما كان يؤمل منها. بل بدا أن لهذا الفشل نتائج وتداعيات استراتيجية، تتصل بتعاظم قدرات محور المقاومة، وتطال مجمل معادلة الصراع مع إسرائيل، وتعبّد الطريق أمام مشهد إقليمي مغاير تماماً لما كان قائماً قبل الحرب السورية. من هنا، تعاملت إسرائيل ــــ ولا تزال ــــ مع هذه الحرب، باعتبارها حرباً إسرائيلية يخوضها الآخرون عنها.
من هنا، وجدت تل أبيب نفسها معنية جداً بنتائج هذه المعركة. لذلك بادر نتنياهو، لقطع الطريق على الواقع المتشكل في لبنان وسوريا، الى خطوة سياسية استباقية على خطّي واشنطن وموسكو. فأرسل وفداً استخبارياً رفيعاً الى الأولى، وترأس آخر الى الثانية. وكرر التلويح بخيارات عسكرية، والتحذير من التموضع الإيراني، ومن تعاظم قدرات حزب الله ومحور المقاومة، في الساحتين السورية واللبنانية.
الانتقادات القاسية والمتوالية التي يوجهها المسؤولون الرسميون الإسرائيليون والخبراء في تل أبيب لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بسبب عزوفها عن التدخل المباشر بما يغير موازين القوى في الساحة السورية ــــ وتحديداً بعد التدخل الروسي ــــ لتحقيق قدر من التوازن، كشفت عن تقدير إسرائيل بأن قلب المعادلات الميدانية لا يتم إلا بتدخل عسكري مباشر لا تقوى هي عليه، بل هو في يد الجانب الأميركي، فيما تبعد إدارة ترامب نفسها عن هذا الخيار منعاً للوقوع في ما وقعت فيه الإدارات السابقة في المنطقة بعد غزو العراق.
في الأسابيع الماضية كثر صدور تقارير ومداخلات من الخبراء الإسرائيليين، حول توصيف واقع انتصار الدولة السورية وحلفائها، والتهديد المتشكل، وذاك الممكن أن يتشكل، في أعقاب الانتصار. ومن بينها تقرير في القناة الثانية العبرية أشار الى أنه «كان بإمكان إسرائيل الدخول الى سوريا لإيجاد وضع يسيطر فيه المتمردون، لا داعش والقاعدة، على كل المنطقة الجنوبية حتى الأطراف الجنوبية للعاصمة دمشق. إسرائيل لم ترغب بفعل ذلك لأننا مردوعون، سواء في المؤسسة الأمنية، وبالطبع في المؤسسة السياسية». وأكد التقرير أن إسرائيل منيت بالهزيمة لأنها «تعاني من عقدة حرب لبنان الأولى». وهو بذلك أقر بكيّ الوعي الذي حفرته المقاومة في المرحلة التي أعقبت تلك الحرب، وصولاً الى التحرير عام 2000، الأمر الذي ردعها عن استغلال المشهد السوري.
لكن ما لم يشر إليه التقرير هو التدخل العسكري عن بعد وترك الميدان للجماعات المسلحة. وهو رأي جرى تداوله في التقارير العبرية، في تقليد لخيار روسيا وسيناريوات تدخلها العسكري في سوريا. مع ذلك، لم تتبنّ إسرائيل هذا الخيار ولم تطالب به، لأنها تدرك، ببساطة، أنه سيناريو حرب عام 2006، مضروباً بأضعاف، رغم إدراكها المخاطر التي ستترتب عن تحرير الحدود الشرقية للبنان، وتحرير العراق، وتراجع المسلحين في الطريق الى الهزيمة النهائية في سوريا. وفي القناة الثانية العبرية إشارة واضحة الى الأداء الإسرائيلي: «يخالف كلياً إرث الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة، حيث إن القسم العربي في الوكالة الصهيونية كان متورطاً في السياسة الداخلية لكل عاصمة عربية».
هكذا تكون إسرائيل قد فشلت في الرهان على «داعش» وإخوته ومن سبقهم. وهزمت عندما تراجعت عن المبادرة العملانية التي تعوض هذا الفشل. كما فشلت في قطع الطريق على تعاظم قدرات حزب الله، وهزمت عندما تم ردعها عن استغلال انشغاله في مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية لتوسيع نطاق اعتداءاتها التي تستهدف قدرات الحزب في الساحة اللبنانية. (الرد على اعتداء جنتا مطلع عام 2014، نموذجاً).
فشلت إسرائيل في تقديراتها الاستخبارية إزاء مستقبل التطورات السورية والإقليمية، وهزمت عندما لم تتمكن من بلورة خيار بديل فوري أو مواز. وهو خيار حاضر على المستوى النظري، إلا أن قيوده أكثر حضوراً على طاولة القرار. كذلك فشلت في إقناع الإدارة الأميركية بفرض خطوط حمر تمنع انتصار محور المقاومة، وهزمت عندما لم تبادر هي بنفسها لهذه المهمة. فشلت في الرهان على مفاعيل إشغال حزب الله بالتهديد التكفيري على الأراضي اللبنانية، وفشلت في إشغال حزب الله بمواجهة تهويلها و«سياسة التوثب» للاعتداء على لبنان، عن مواجهة التهديد التكفيري. لكنها هزمت أمام حزب الله، ومحور المقاومة، عندما حرر لبنان أرضه، وحافظ في الوقت نفسه على معادلة ردع، أكثر نجاعة وفعالية، من أي وقت مضى.