هي فلسطين التي انشغل البعض بمصالحة مغتصبها ومشاركته إنتاج فيلم سينمائي في تل أبيب... ويستهجنون ردَّ فعل جريدة «الأخبار» العنيفة بحق السينمائي ورعاته من بعض المسؤولين في الدولة والجهات الدولية الحالمة بالسلام... صرختم فيها أن تسكت صوناً له ولجائزة الأوسكار وللحرية والفن والإبداع... فما أشرفكم، هل تسكت مغتصبة؟
إن الاعتذار الذي طالبت «الأخبار» المخرج زياد دويري به ليس لنا، بل لأمهات وأخوات وأحبة مئات آلاف الشهداء والمعذبين من آلة القتل والتخريب الإسرائيلية، التي لا شك أن كل إسرائيلي، ومن بينهم الذين تعاون معهم دويري، شارك فيها من خلال التجنيد العسكري.
أما النقاش بشأن رحلاته إلى فلسطين المحتلة وتعاونه معهم في إخراج فيلم وتصويره، فلا يمكن أن يكون منتجاً إذا لم يتطرق إلى أساس المشكلة، وهو كيفية تعاملنا كشعب عانى العدوان والاحتلال الصهيوني مع الفنانين والمبدعين والعلماء والمثقفين الإسرائيليين.
ولا بد أن يبدأ النقاش بسؤال عام وبديهي: ما هو الأسلوب الأنجح في مواجهة العدو الإسرائيلي؟
المخرج زياد دويري، الذي ترعرع في حضن والدته المحامية المناضلة في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يتطرق في أيٍّ من مقابلاته الإعلامية رداً على الحملة التي تتهمه بالتطبيع مع العدو، إلى مساهمته في مواجهة العدو، ولا إلى واجبه تجاه القضية التي قال إنه تبنّاها منذ الصغر.
ألم يفكر المخرج اللبناني بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بلده، حيث يقبع مئات آلاف المشردين المقموعين المطرودين من أرضهم عندما سافر إلى تل أبيب وعمل وأقام فيها لفترة من الزمن، بينما يُحرَم الفلسطيني مجردّ الحلم بحق العودة؟
ألم يخطر بباله أن زملاءه الإسرائيليين الذين عمل معهم وشاركهم عمله وفنه وصداقته يحتلون منازل وبيوت وأراضي تعود ملكيتها إلى عائلات يتسول بعض أطفالها على أبواب دور السينما في بيروت ليتمكنوا من شراء ربطة خبز؟
إن إبداع دويري لا يجوز أن يُعفيه من المساءلة، لا بل يزيد من أهميتها حيث إن الرجل لديه طاقة فنية كان يمكن استثمارها في مواجهة العدو، لا في مسامحته من دون مقابل من خلال المساهمة في التطبيع معه.
يدخل البعض في سجالات سطحية بشأن عرض فيلم دويري الجديد أو منعه، ويستغل البعض ذلك للدعاية وزيادة أعداد المتابعين من خلال تحدٍّ بات يروّج له بين الناس تحت عناوين «حرية التعبير» في مواجهة «قمع السلطة»، و«الانفتاح والتطور» في مواجهة «الانغلاق والرجعية»، و«الإبداع الفني» في مواجهة «الانحطاط الثقافي»... ويسعى البعض إلى الذهاب أبعد من ذلك بكثير، فيتحول النقاش إلى هجوم مركز على المقاومة «الخشبية المحافظة التي تتبع ولاية الفقيه وتمنع الإبداع الفني» والتطور والانفتاح على الغرب وعلى العالم المتقدم... ويخرج بعض الموتورين من أوكارهم ليستغلوا انحراف النقاش عن مساره للتصويب على المقاومة في زمن بات الشغل الشاغل فيه للقوى الغربية وبعض القوى العربية في لبنان هو التحريض على المقاومة.
لنفترض أن دويري اختار دمشق لتصوير فيلمه الجديد. يقتضي ذلك تواصله مع السلطات الرسمية في الجمهورية العربية السورية لحصوله على إذن للتصوير، كذلك يقتضي انتقاله إلى دمشق واجتماعه بالمسؤولين السوريين التابعين للرئيس بشار الأسد. ولنفترض أن الفيلم الجديد يتطرق إلى عملية المصالحة بين المؤيدين للنظام والمعارضين له وتعقيداتها. ولنسأل رافعي شعارات «حرية التعبير» و«الانفتاح والتطور» و«الإبداع الفني» عن رأيهم في فيلم أخرجه زياد الدويري في ظل نظام الرئيس بشار الأسد كما أخرج فيلمه في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
أيشك أحداً في أن فيلماً أُخرج في ظل حكم الرئيس بشار الأسد يمكن أن تقبل لجنة الأوسكار ترشيحه لنيل الجائزة؟
اما إسرائيل، «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، التي تتمتع بتفوق علمي وتقني وإبداعي وتربوي وجامعي على دولنا العربية... إسرائيل التي تحظى بدعم سياسي واقتصادي ومالي أميركي (يفوق المساعدات الأميركية لكل بلدان القارة الأفريقية) وأوروبي، فمن تعامل معها من العرب إنما هو في طليعة الشرفاء... لكن يا أولاد الـ... هل تسكت مغتصبة؟

* من قصيدة «القدس عروس عروبتكم» للشاعر مظفر النواب