أثارت زيارات البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لسوريا عامي 2011 و2015 والقدس برفقة البابا فرنسيس عام 2014 بناءً على دعوة منه، جدلاً داخلياً على خلفيات سياسية، بين مؤيدين ورافضين للزيارات، لجهة تطبيع علاقة بكركي مع النظام السوري، أو لدخوله الى «إسرائيل». في كل الحملات التي واجهت الراعي كان جواب بكركي أن البطريرك يزور رعيته حيثما كانت.
لكن الزيارة المرتقبة الى السعودية لن تكون كسابقاتها، بحسب أحد السياسيين، «فهي الزيارة الأولى غير الرعوية للبطريرك الماروني، ولو أن في السعودية جالية لبنانية كبيرة، ورعايا موارنة ومسيحيين بعشرات الآلاف يعملون فيها منذ سنوات طويلة، لن يكون متاحاً للراعي الاحتفال معهم بالقداس الإلهي كما جرت العادة في كل دول الانتشار التي يزورها، بسبب غياب الكنائس عن أرض السعودية».
ولأن زيارة البطريرك الماروني للسعودية، بعد تلقّيه دعوة رسمية نقلها اليه القائم بالأعمال السعودي وليد البخاري، ليست رعوية بل سياسية و«وطنية»، فهي تحمل أبعاداً مختلفة، سعودياً ولبنانياً.
تأتي الزيارة في توقيت سعودي لافت، في إطار داخلي يتعلق بالانفتاح الذي تعلنه السعودية عبر رؤية وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وخطوات تتعلق بدور النساء وحضورهن في المملكة. وهي تتخذ وجهاً سعودياً حين تستقبل الرياض أعلى سلطة كنسية في الشرق الأوسط، كاردينالاً وبطريركاً للموارنة، للمرة الاولى في حدث سيتردّد صداه سعودياً وإقليمياً ودولياً، بقدر ما ستكون له ارتدادات لبنانية. فالسعودية لا تقيم علاقات ديبلوماسية مع الفاتيكان الذي عيّن سفيراً له في الكويت كأول دولة خليجية عام 2001، ويقيم لاحقاً علاقات ديبلوماسية مع قطر عام 2003، ومع الإمارات العربية عام 2010. وهي ظلت في منأى عن إقامة هذه العلاقات، لاعتبارات معروفة، كما موقفها من وجود الإكليروس المسيحي على أرضها، رغم وجود جالية كاثوليكية كبيرة من العمال اللبنانيين والغربيين والآسيويين على أرضها يطالب الفاتيكان دوماً بإتاحة الحرية الدينية لها، علماً بأن الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز التقى البابا بنديكتوس السادس عشر عام 2007 في الفاتيكان، في لقاء هو الاول من نوعه بين ملك سعودي ورئيس الكنيسة الكاثوليكية. لذا يمكن فهم الاستثنائية التي ستقابل بها الرياض زيارة البطريرك الماروني لأراضيها، من منظار داخلي ودولي، في وقت تسعى فيه الى الترويج لصورتها المستحدثة وفق رؤية 2030، في حدث سيحظى حكماً بتغطية إعلامية واسعة، لأنه يحصل للمرة الاولى في تاريخ المملكة، وتاريخ بكركي أيضاً.
لبنانياً، تأخذ الدعوة السعودية أبعاداً تنطلق من مقاربتين مختلفتين؛ الاولى تنطلق من علاقة السعودية الجيدة تاريخياً مع بكركي ومع القيادات السياسية المارونية في شكل عام. قبل الحرب وخلالها، لم تنقطع علاقة بكركي مع الديبلوماسية السعودية، بل كانت تسجل لها مواقف مرحّبة بالتدخل السعودي لحل الازمات اللبنانية المتتالية، وترسخت هذه العلاقة مع السفير علي الشاعر، وتطورت لاحقاً مع المبادرات السعودية وصولاً الى مبادرة الطائف وما نتج منها من اتفاق دعمته البطريركية المارونية حين كان على رأسها البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير. وغالباً ما كانت القيادات المارونية قبل الحرب وخلالها ترحب بمواقف السعودية لجهة وقوفها سياسياً الى جانب وحدة لبنان وعدم العبث به، ومساعداتها التي دعمت بها لبنان مالياً واقتصادياً. ورغم كل الانقسامات التي جرت لاحقاً والمواقف الحادة تجاه السعودية من قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر، لم تدخل بكركي على خط الاصطفاف ضد السعودية، وظلت على تواصل معها عبر مستويات مختلفة، حافظة لها موقفها من إنهاء الحرب عبر الطائف.
لكن البطريرك الراعي الذي يزور السعودية في زيارة غير رعوية، بدأ حبريته منتقداً اتفاق الطائف، وداعياً الى عقد اجتماعي جديد، وهو يزور السعودية راعية هذا الاتفاق والحريصة على استمراره وعدم تعديله. وحين تولى سدة البطريركية، لم تنظر القيادات السياسية المؤيدة للدور السعودي في لبنان، في ظل الخلافات بين 8 و14 آذار حول هذا الدور، بعين الرضى إليه. من هنا أهمية الزيارة الى أرض الطائف، وترقّب موقف البطريرك الذي وإن لم يقف أبداً في موقف معادٍ للسعودية، لكن قوى 8 آذار وضعته في بداية عهده في الصفوف الداعمة لها، الأمر الذي لم يلاقَ ترحيباً من السياسيين المؤيدين للسعودية.
مع مرور الوقت، اكتسب خطاب الراعي تجاه قضايا حساسة التباسات وتأويلات مختلفة، وهو الأمر نفسه سيتكرر اليوم مع زيارته السعودية في حدث غير مألوف؛ فالزيارة الآتية في ظل حساسية العلاقة بين العهد والرياض، وفي خضم زيارات حلفاء الرياض لها، وحثّها على مواجهة حزب الله وإعادة تعويم حلفائها، تخلق محاذير على المستوى الداخلي. وكذلك تأتي في لحظة إقليمية تتعلق بترتيبات ذات صلة بالحرب السورية ومواقف الراعي والسعودية على تناقض، إن في ما يتعلق بمصير النظام السوري أو النازحين السوريين وغيرهما من الملفات المتباينة حتى في العلاقات الداخلية لبنانياً. وسيكون أمام الراعي تحدٍّ كبير في مقاربة هذه الملفات الدقيقة والحساسة، خصوصاً أن الزيارة ستعكس وجهاً لبنانياً عبر مواقف متناقضة منها، بين مؤيدين لها وحذرين من خلفياتها؛ فحزب الله الذي صرف النظر عن زيارة الراعي للقدس، بعدما غطّى الراعي كثيراً من مواقف الحزب وزار أمينه العام السيد حسن نصرالله، هل يصرف النظر أيضاً عن زيارة السعودية ويتعامل معها من باب الاطمئنان الى مواقف الراعي، فلا ينظر بريبة إليها؟ وهل السعودية في اختيارها هذا التوقيت، وتخطّي الاعتبارات الدينية لتوجيه دعوة بمثل هذا الحجم، تريد استيعاب وضع لبناني جديد على أهبة مفترق طرق إقليمي ومحلي؟
لا شك أن حدثاً كبيراً في طريقه إلى أن يتحقق على طريق العلاقة بين بكركي والسعودية، في الشكل هو الاول من نوعه، ومجرد حدوثه يعدّ استثنائياً للطرفين. لكن العبرة تبقى في مضمونه، لأن استحقاقات عدة ستكون على المحك، لبنانياً لجهة استثمار الزيارة في اتجاهات تؤثر سلباً على الساحة الداخلية، وكنسياً في الحفاظ على الوجهة الأساسية لدور بكركي التاريخي.