سؤال صار مُلحاً بعدما كَثُرت استعمالات تعبير «الأشقاء العرب» في معرض تحذير لبنان من قبل بعض أصحاب العلاقات المالية أو الشخصية مع النظام السعودي، وفي حالات أخرى توبيخه أو تهديده من خلال تصريحات مسؤولي هذا النظام وآخرين مرتبطين سياسياً به. وهو أمرٌ ينسحب أيضاً على حال الكثير من الدول العربية التي تعرضت سابقاً وتتعرض حتى اليوم لضغوطات أو ابتزاز أو تهديدات إقتصادية وسياسية من النظام نفسه.
وقد تشمل اللائحة غالبية هذه الدول التي من المفترض أنها تحمل صفة الشقيق للمملكة العربية السعودية إنطلاقاً من انتمائها العربي المشترك، كذلك التساوي بينها وبين هذه المملكة في عضوية جامعة الدول العربية.
فعلى المستوى القانوني والميثاقي العربي، السعودية لم تكن من الدول المؤسِسة والموقِعة على بروتوكول الإسكندرية الذي صاغته ووقعت عليه في السابع من تشرين الأول عام 1944 كلٌ من سورية ومصر ولبنان والعراق وشرق الأردن. هذا البروتوكول أصبح في ما بعد ميثاق جامعة الدول العربية إثر تأسيسها في الثاني والعشرين من آذار عام 1945 والذي وقعت عليه السعودية واليمن لاحقاً. إلا أنه من المفترض أن السعودية، التي تمسك اليوم بمفاتيح القرار في هذه الجامعة، ألزمت نفسها بما ورد في البروتوكول والميثاق معاً وخصوصاً منهما المادة 5 التي تنص على التالي: «لا يجوز الإلتجاء الى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة».
لقد تمكن النظام السعودي من أن يستغل منصة جامعة الدول العربية بعد إخراج سورية منها واستضعاف مصر ليفرض قرارات تنال من خصوصيات دول أخرى كلبنان، في حين لم يكلف نفسه اللجوء الى هذه الجامعة لفض منازعاته المزعومة مع شقيقتيه اليمن وقطر، فشن عدواناً إجرامياً على الأولى وحاصر الثانية من خلال المنصة الإحتياطية، مجلس التعاون الخليجي، وبحيث بات انعقاد مجلس الجامعة الوزاري أو حتى قمتها الرئاسية والملكية غب طلب الرياض مع اكتفاء المستهدفين بالاعتراض، والخائفين بالتحفظ.
وبعيداً عن الفوبيا الإيرانية التي تسكن عقول ونفوس القيادة السعودية السابقة المسحوقة أو تلك المندفعة للقبض على المُلك، فإن المقاربة السعودية المستجدة للعلاقة مع حلفائها في لبنان، قبل خصومها أو أعدائها كما توصفهم، تنذر بتداعيات لن تطال شظاياها لبنان وحده. بل أن هذه الشظايا، ومهما بلغت القدرة السعودية على دفعها عنها، لن تتمكن من ذلك، لأن الرياض باتت في وضع صعب وحرج مع تزايد أعدائها وإتساع مروحة خصومها وتراجع تأثيرها في مسار الصراعات والحلول أو التسويات على المستوى الإقليمي خاصة. وهو أمر برز بقوة، وإن لم يتم كشف خفاياه حتى الآن، مع الخطوة المتهورة التي أقدم عليها النظام السعودي الجديد تجاه رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري ومن خلاله ضد حزب الله.
من المؤكد أنه لم يعد بالإمكان توصيف العلاقات اللبنانية ــ السعودية على أنها علاقات بين شقيقين عربيين ضنينين بحفظ أحدهما للآخر. على الأقل هذا ما بيّنه الاعتداء السعودي على لبنان والذي كان يهدف الى إثارة فتنة طائفية فيه، وبالتالي ضرب أمنه الإجتماعي واستقراره السياسي والإقتصادي، والأخطر الإستثمار على ذلك لتحقيق مآرب خطيرة في ساحات أخرى.
في هذه الحالة السعودية، لم يعد ينفع التكاذب التقليدي اللبناني في تأجيل الإستحقاقات، بل باتت المصلحة اللبنانية الواقعية تقتضي التفاهم على مقاربة جديدة لمفهوم العلاقة مع النظام السعودي المستجد وفقاً لتصرفه الأخير معنا كلبنانيين، وعدم التغني، بسذاجة، بتاريخ العلاقة بين البلدين وضرورة استعادتها طبقاً لصورة صنعها بعض اللبنانيين في أذهان بعض الجمهور على أساس مصالحهم الخاصة أو المصلحة العامة في بعض الحالات. وفي أساس هذه المقاربة عدم تعميم تعبير «الأشقاء العرب» عندما يكون المقصود السعودية فقط، إذ لا يمكن ولا يحق لأي مسؤول لبناني أن يعتبر أن تصحيح العلاقة مع السعودية يمكن أن يغنينا عن بقية العرب، كما لا يمكنه ولا يحق له أن يتجاهل أن لبنان يتمتع بأفضل العلاقات مع معظم الدول العربية التي ترغب بذلك، وإلا فليدلنا على هؤلاء الأشقاء الذين يجب أن نصحح علاقاتنا معهم غير السعودية، أو ليقنعنا بأن هؤلاء الأشقاء المفترضين هم أشقاء لنا ولبعضهم فعلاً أو أنهم لا يتقاتلون ويستعين بعضهم بأعداء أمتهم للطغيان على شقيق هنا وهناك. أما العروبة الحقيقية فلبنان مصدرها وموئلها وحامل لواء لغتها وانفتاحها وحضارتها منذ مشاركته الأولى في صياغة ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن العرب والأعراب، ومنذ ريادته في تأسيس جامعة العرب، وبالتالي هو ليس بحاجة لإثبات عروبته من خلال مبايعة هؤلاء الأعراب. هذا اللبنان هو الذي تنكّب مسؤولية حمل القضية الفلسطينية والتضحية في سبيلها بالدم والموقف وانتصر، فماذا فعل هؤلاء الأشقاء المعنيون سوى السعي لكسب رضى السيد الأميركي، واليوم التذلل لإشهار تطبيع العلاقة مع كيان العدو الإسرائيلي!
عند ذلك، وبعد إعادة صياغة مقاربة وطنية توافقية لنمط العلاقات مع الأشقاء ومن ثم الأصدقاء ودول العالم كافة، ما خلا كيان العدو الإسرائيلي، يمكن أن يتم البحث في مفهوم النأي بالنفس، النأي عن ماذا ومِنْ مَنْ.
* المدير العام السابق لوزارة الإعلام.