لا أحد يُمكنه أن يُجاهِر بحبّ إسرائيل في لبنان. هذا دون «فعل العمالة». هناك مَن يضمر ذلك، قطعاً، لكنّه لا يَملك شجاعة البوح. حتّى أعتى كاره لمقاومة إسرائيل، لمُطلَق مقاومة، نجده يوارب في الكلام. سلوك باتت ملاحظته سهلة. إنّه يَخاف. مِن حقّه أن يَفعل. يَعلم أنّ المزاج العام سوف «يبصق» عليه. يَكتشف أنّ الذين يُشاركونه الموقف، مهما علت مناصبهم، لن يتقدّموا ليدافعوا عنه. لا حصانة له. هذا أهمّ مِن النصوص القانونيّة.
خوف الوصمة الأبديّة أعلى مِن خوف السجن. هذا لم يأتِ مِن فراغ. فاتورة هائلة مِن الدماء مُسدّدة. هذه إيجابيّة لبنانيّة. يَخرج مِن لبنان هذه الأيّام الصوت الأعلى، عربيّاً، في مكافحة التطبيع. بعض الفلسطينيين يَستغربون الأمر. تيار عربي، باتت تباركه السعوديّة علناً، أصبح يُجاهر بطلب ودّ إسرائيل. في هذا الوقت، تحديداً، يُقدّم لبنان مشهد «شرشحة» لشخص سقط في العمالة. في لبنان مقاومة مُسلّحة قويّة. لطالما صاغت القوّة أعراف المجتمعات. ليست الحالة مثاليّة، طبعاً، ولطالما انتُقِدت المآلات القضائيّة في ملفّات العملاء، إلا أنّ الواقع، على حاله، يبدو الأكثر إشراقاً مقارنة بالمحيط. نبض المجتمع أجدى مِن النصوص.
الحساسيّة تجاه «الخيانة الوطنيّة» ظاهرة عالميّة. إنسانيّة. عرفتها كلّ الأمم في التاريخ. تُسمّى حديثاً بـ«الخيانة العظمى». لا شيء أعظم مِنها. لنا أن نتخيّل أفظع الجرائم، وأكثرها قبحاً، إلا أنّها تظلّ دون «العظمى». المجتمعات تحفظ بذلك وجودها. تُكافح ضد فنائها. إنّه الخطر الآتي مِن الخارج. لطالما أبيدت الحضارات على يد «الخارج». لهذا بُنيت الأسوار. يبدأ العفن مِن الداخل، صحيح، إنّما لا فناء معه بالضرورة ما لم يتّصل بالخارج. جرائم العمالة، في قانون العقوبات اللبناني، ترد بمواد مِنها تحت عنوان: «الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي». في مادة مِن القانون المذكور يرد: «كل لبناني دسّ الدسائس لدى دولة أجنبيّة أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على لبنان، أو ليوفّر لها الوسائل إلى ذلك، عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعله إلى نتيجة عوقب بالإعدام». ما مِن دولة في العالم إلا ولحظت هذه المسألة في قوانينها. نصوص القوانين تظهر وتخبو وفقاً للوعي العام. للحساسيّة الشعبيّة. هناك مادة في القانون اللبناني، مثلاً، تُعاقب بالحبس والغرامة «مَن أحدث ضوضاء أو لغطاً على صورة تسلب راحة الآهلين». مَن سمع بها مِن قبل؟ مضمونها ليس وعياً جماعيّاً. ليس ثقاقة عامة. ليس غريباً أن تجد قاضياً يفاجأ بوجودها. الضوضاء جزء مِن حياتنا. مكافحة «إقلاق الراحة العامة» غير شائعة. لكن العمالة ليست كذلك. تجدها مبغوضة مِن «بالع الكتب» وصولاً إلى الأمّي. هذه بقعة ضوء في مستنقع الظلام.
قبل سنوات، أُدخِل إلى سجن رومية المركزي أحد المتّهمين بالعمالة لإسرائيل. يأتي أحد نزلاء السجن، وهو تاجر مخدّرات عتيق، ويطبع على رقبة النزيل الجديد «سحسوحاً». يأتي مُدان بجريمة قتل ويفعل كسابقه. يأتي «الحرامي» ويركله بعنف، يغرقه بالشتائم، فضلاً عن «السحسحة». عميل لإسرائيل! للسجون آدابها أيضاً. أحداث اللحظة كان ينقلها لنا أحد السجناء، مباشرة، عبر الهاتف. الهواتف تهرّب إلى السجن. كان مزهوّاً. حتّى إدارة السجن لم تكن قادرة أن تدافع عن المضروب. سقفها: «يلا بسيطة... يا عميل». كان السُجناء، كلّما دعاهم المزاج، يأتون للترويح عن أنفسهم إلى سجينين. يضربونهما. أحدهما العميل، أمّا الثاني فكان قد آذى أمّه. ليس هذا الجمع صدفة. السجناء في هذا ليسوا مزاجيين. لا عزاء للعميل (بصرف النظر عن شخصه). كان مِن إيجابيّات اعتداءات إسرائيل على لبنان، المتكرّرة، بما تحمل من دماء ودمار وذاكرة، أنّ نبض كُره العميل ظلّ قويّاً. هذا إلى جانب مقاومة قويّة.
أن نَكره العميل، فعل العمالة، فبهذا نحمي أنفسنا. هذا كُره مقدّس. قد نشفق على الشخص، على ما آل إليه، على «نهاية» كان يُمكن أن تكون مختلفة. هذه مسألة أخرى. إنّما، وبمطلق الأحوال، يجب ألا تخبو نزعة «التفّ» على العمالة. ألا تخبو، خاصّة، تجاه «الكبار» الذين زيّنوا فعل العمالة. أساغوه وهوّنوا خطره.