بعض الأحزاب يترك علامات فارقة في تاريخ بلاده لقدرته على تعديل وقائع فيها سلباً أو إيجاباً. تيار المستقبل كان نوعاً من هذه الأطر. حاضره هو ماضيه الذي صنعه الرئيس رفيق الحريري في حياته ويوم مماته. حاول الرجل دخول لبنان مراراً، إلا أن معادلات البلد كانت أقوى منه في محطات كثيرة وعاندته لتردّه من حيث أتى، وتحديداً إلى السعودية. غالباً ما التبس توقيت دخوله مع انهيارات كبرى أو بعدها. هكذا في حياته.
وبالتمام والكمال يوم اغتياله. دخوله الأول جاء إثر اجتياح بيروت. لكنه عاد من حيث أتى، ليطل بعدها بثلاث سنوات موزعاً على اللبنانيين مليون حصة غذائية مع بدء الانهيار الفعلي للاقتصاد اللبناني. لكنه انسحب من الجغرافيا ليتدخل بتاريخها، حيناً من دمشق عبر الاتفاق الثلاثي، وأحياناً من لوزان وجنيف. كل هذه المحاولات راكمت لدخوله «منقذاً» لجمهورية الأرز إثر انهيار الليرة وبعد إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع تحت وطأة الإطارات المشتعلة. يومها كانت أحلامه أكبر من البلد الذي ربطه بمشاريع سياسية واقتصادية بقيت مثار اختلاف وخلاف. ويوم اغتياله كان سقوطه أكبر من قدرة لبنان على الاحتمال.


حتماً لم يحن الوقت بعد لتقييم وقياس ما أرساه الرجل وخاض من أجله أشرس المعارك والاستقطابات، وليغوص لبنان من بعده في أعقد المحن السياسية من أجل الحريري نفسه، وعبر تيار المستقبل الذي لا يُقرأ في راهنه إلا من خلال ما أرساه رفيق الحريري، مؤسس النواة وباني المرتكزات الأولى لجنين تيار تحكمت به عائلة، وحكمت من خلاله طائفة برمّتها، بعدما أقفلت بيوتات سياسية تقليدية من صيدا إلى طرابلس مروراً ببيروت التي يبقى سبب عقمها في توليد قيادات سياسية محل سؤال.
في عام 1982 سيتردد على مسامع اللبنانيين، وهم في ذروة حروبهم، أن ثرياً منهم يدعى رفيق الحريري، صيداوي الولادة، ينسج من السعودية أوسع العلاقات مع ممثلي النظام اللبناني وبقايا الجمهورية الأولى، وأنه آت لترميم عاصمتهم التي كانوا يباهلون بها العالم العربي، مغفلين مدن الفقراء وأحزمة البؤس التي أحاطت بها جنوباً وشرقاً. وبالفعل، أطل الرجل حاملاً معه مجسّماً لمدينة أسماها بيروت تختلف تماماً عما كانته العاصمة واقعاً. ثم ما لبث أن غادر فجأة ليختفي تاركاً وراءه أثرين: الأول، شركة «سعودي اوجيه» التي استعجلت المبادرة لرفع الأنقاض التي خلفت معظمها غارات الطائرات الإسرائيلية وقصف ذوي القربى لها. والثاني «مؤسسة الحريري» التي ترأسها مصطفى الزعتري الذي استقطبه الحريري أيضاً من جمعية المقاصد – صيدا. وستكون هذه الجمعية، في مقبل الأيام، «صانعة مجد رفيق الحريري» والصورة «الأبهى» لرجل دخل السياسة من باب التعليم، ولتكون على الدوام الملجأ الآمن للحريرية مع كل صدام سياسي أو خسارة سياسية بدعوى أن كل مشاريع الحريرية السياسية والاقتصادية هي من طبيعة رسولية، وعلى شاكلة المؤسسة التي علمت 35 ألف طالب، كان يُمنن اللبنانيون بهم عند كل مناسبة وفي كل استحقاق، حتى ولو كان متصلاً بتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي.
في عام 1984 استتبع الخطوتين بإطلاق مكتب «مساعدات الحريري» الذي عُني بالتقديمات الصحية والاجتماعية وببعض النشاطات الإنمائية التي تركزت حينها على ترميم مساجد وكنائس تضررت بسبب الحرب الأهلية، ناهيك عن حفر آبار ارتوازية في مناطق الأطراف ذات الغالبية السنية. هكذا شكلت الخطوات الثلاث، المتصلة اتصالاً شديداً بيوميات الناس، معلماً واضحاً لما يسعى فيه وإليه الرجل. فالعام الذي تلاه كان مفصلياً في بلورة صورة من سيصبح، بعد سبعة أعوام، رئيساً لحكومة لبنان. إذ وزع مليون حصة غذائية في سائر أنحاء لبنان باسم الملك فهد بن عبد العزيز، لتبدأ الوقائع المؤسسة للسعودية وأدوارها اللاحقة والمتعددة خلال الحرب عبر الاتفاق الثلاثي، ثم مؤتمري جنيف ولوزان، ولتتكلل أخيراً باتفاق الطائف الذي قدم الحريري كسياسي وديبلوماسي يجيد إبرام التسويات ويذهب في كل الاتجاهات التي يستلزمها سلم البلد وأهله. هذا السلم اهتز بعد عامين بفعل الارتجاج الاقتصادي في أنقاض دولة انقطع عنها فجأة المال الممول للحروب التي بقيت قسوة آثارها حاضرة، ولم تفلح حكومة كرامي في إطلاق ورشة إعمار، أو استنفار أصدقاء لبنان العرب والدوليين لمساعدته على إعادة الإعمار، فقُطعت الطرقات واحتل الدخان الأسود المنبعث من حريق الإطارات المشهد الذي أطل من خلفه رفيق الحريري ومعه سلسلة مشاريع كان الجميع بأشد الحاجة إليها. بعدها تربع على سدة الرئاسة الثالثة قبل أن يُشغل مخيلات اللبنانيين المنهكين من الحروب بأحلام السلام الوردية الآتية.
القوة والغطاء العربي والدولي اللذان حضر بهما الحريري إلى لبنان استقطبا آمال اللبنانيين عموماً، والسنة منهم خصوصاً بعدما فقدوا قياداتهم السياسية والروحية إما غيلةً وقتلاً، أو نفياً وإلغاءً. وعلى مدى الأعوام الأربعة التي تلت تسلمه رئاسة الحكومة خاض كل معاركه السياسية لتوطئة زعامته، من باب الاختلاف على تطبيق وثيقة الوفاق، في الشق المتعلق منها بصلاحيات الموقع الدستوري الثالث. فكان ذلك نقطة الجذب لطائفة تركها عمقها العربي والإسلامي نهباً منذ عام 1967 لكل مغامرات وطموحات أبو عمار التي سقطت عام 1982، مع سقوط بيروت وسكوت الجميع عن معنى سقوط ثاني عاصمة عربية بعد القدس في يد الاحتلال الإسرائيلي.

هكذا أمضى الحريري السنوات الأربع بين اعتكاف وعودة إلى ممارسة صلاحياته ثم استنكاف، حتى استقطب حوله جمهوراً يتوزع على قسمين: الأول يريده زعيماً قريناً لغيره من زعماء الطوائف وأمراء الحرب، والثاني يتوسله بديلاً مالياً عن موارد منظمة التحرير الفلسطينية. طيلة هذه السنوات حرص وإعلامه على استثمار نقد اللبنانيين لتجاربهم المريرة، ووظف كل إعادة القراءات التي تليت في المنابر والندوات وعلى صفحات الصحف بما يميزه عن غيره من الطبقة السياسية الآتية في غالبها من حروب طاحنة. لكن طغيان السياسة على الاقتصاد في حياة اللبنانيين أشعره بقيمة افتقاده للإطار المنظم الذي يحوزه غيره من زعماء الطوائف ويواكب العمل السياسي في الشارع ومع الناس. عندها كانت أولى محاولاته لإنشاء حركة سياسية شبه منظمة بدأت عام 1996، حين كلف مدير مكتبه الدكتور حسني المجذوب وعمر فاضل، وكلاهما من قيادات حركة القوميين العرب، تأسيس لجان شعبية في بيروت. لكن الفشل الذريع كان حليف الاثنين جراء عدم وجود كادرات وقياديين لهذه المرحلة. والسبب الأهم كان في عدم تجاوب البيروتيين مع الغواية الحزبية وميلهم التلقائي إلى ممارسة العمل السياسي من خلال البيوتات التقليدية التي كان الرئيس الدكتور سليم الحص استثناء إيجابياً عليها وبكل المعايير.
فشل التجربة الأولى في مجال التأطير السياسي حفز الحريري على الإصرار أكثر فأكثر. فكان أن انتقل البحث في استقطاب أهل المهن الحرة، خصوصاً أن لمؤسسته فضلاً تعليمياً عليهم. تقرر أن تكون البداية من نقابة المهندسين انطلاقاً من «أوجيه لبنان» ومع بلال علايلي يليه سمير ضومط (وكلاهما أصبح لاحقاً نقيباً)، ثم فايز مكوك. علماً أن الأخيرين جاءا من الحزب الشيوعي ويختزنان تجربة سياسية ونقابية. بعدها، التحق خالد شهاب بالثلاثة بعد إبرام تسوية معه للانسحاب من السباق النيابي على مقعد في بيروت مع وعد بترشيحه لمنصب نقيب والذي تحقق مؤخراً. انكب الرجال الأربعة على انشاء إطار يجمع المهندسين لتتوسع الفكرة كي تطال مختلف النقابات. كان التركيز بداية على الأطباء وتحديداً أطباء الأسنان لكون كثرة منهم حصّلت تعليمها بدعم «مؤسسة الحريري»، وقد تميز هؤلاء قبل انضمامهم إلى إطار الحريري النقابي بأنهم من محبذي العمل السياسي. إذ كانوا يجتمعون تحت عنوان «ندوة الأربعاء» التي برز وأثر فيها العقل السياسي للرئيس الحص. ثم كان القرار بالتوجه إلى نقابة المحامين التي برز منها موالياً للحريري وسياساته الدكتور فيصل شاتيلا، الدكتور فوزي زيدان، والدكتور زياد زيدان، واستطاعوا جذب أجيال مختلفة في النقابة خصوصاً من المحامين البيروتيين الذين بدأوا يتململون من هيمنة حركة أمل على الفرع الأول من كلية الحقوق في الصنائع.
كان عام 1996 استثنائياً للرئيس الحريري، حيث سيؤسس لحضور استثنائي يعينه في سنواته العجاف بعد عامين مع انتخاب العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية. فقد اندفع الحريري في كل الاتجاهات لاستقطاب ما أمكنه من خبرات سياسية تعينه على مواجهة قادة وزعماء تمرسوا وتقلبوا طويلاً في أطوار السياسة وتحالفاتها. والمفارقة أن الحريري، بما مثله من ليبرالية، كان نقطة جذب لشيوعيين ونقابيين محترفين مثل محمد كشلي الآتي من منظمة العمل الشيوعي والذي حاول ترؤس قطاع المهن الحرة (الذي أسسه ضومط، العلايلي، مكوك، وشهاب). لكنه لم يوفق، إذ تصدى له هؤلاء بشراسة ــــ خصوصاً ضومط ومكوك ــــ وهم من أجيال مختلفة ومن تجارب شيوعية متباينة بين الحزب والمنظمة. الارتطام بين هؤلاء كاد أن يطيح بكل ما تأسس، في وقت كانت تتنامى فيه قوة الاتحاد العمالي العام المعترضة على سياسات رئيس الحكومة الاقتصادية والمالية والاجتماعية. فكان أن كُلف الكشلي بالعمل لتفكيك القوة النقابية المتصاعدة وتشتيتها، وللأسف سجل نجاحاً يُحسب له ولو من موقع المختلف. وفي هذا العام أيضاً نجح رفيق الحريري في استقطاب سليم دياب من جمعية المقاصد مع فريق عمل كان أبرز من فيه صالح فروخ وبشير عيتاني وعزت قريطم، وهؤلاء كلهم سيشغلون أدواراً بارزة ومقررة في حقبة سعد الابن بعد اغتيال الأب.
وإذ استمر العمل النقابي على وتيرته الهادئة، وتحت السقوف السياسية التي وضعها الحريري أو وُضعت له، اندفع اندفعوا الى العمل الدعائي في أوساط البيروتيين عن أن المشروع السياسي والاقتصادي لرئيس السلطة الثالثة هو البديل الضروري لملء الفراغ في وجه القوى الأخرى أولاً، وقصر حضورها ونفوذها على المناطق التي تمثلها ثانياً. ولاقى هذا الخطاب استحساناً وقبولاً تدرج من النخب إلى الشارع الذي عبّر عن هويته وهواه السياسي في انتخابات بلدية بيروت عام 1998، التي أدارتها ماكينة انتخابية قوامها سليم دياب وفريقه ونقابات المهن الحرة، وأظهرت أداء متميزاً قارنه أرباب تلك المرحلة بماكينة حزب الكتائب قبل الحرب، خصوصاً لجهة قيد الناخبين البيروتيين وحصر أمكنة إقامتهم والقدرة على حثهم على الانتخابات.
مع فشل كل أحلام السلام الآتي وتبدّدها، استشعر الحريري ثقله ومشروعه على لبنان ككل. فاندفع إلى تنظيم إطار مدني في بيروت حصراً، فكان تأسيس «جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية». وقرار حصر الجمعية، اسماً وحضوراً، على العاصمة سببه ما كان يردده في مجالسه الخاصة عن قرار سوري سياسي وأمني بتحديد حجمه وحضوره داخل العاصمة. فكان أن أسسها سليم دياب وترأسها وضمت 40 شخصية اكاديمية وعلمية كالدكتور باسل فليحان الذي سيلعب أبرز الأدوار الاقتصادية لاحقاً. بدأت الجمعية مشروعها بفروع ستة توزعت على الأشرفية، المصيطبة، رأس النبع، طريق الجديدة، وطى المصيطبة، وعرمون التي صارت ملجأ للبيارتة الذين استعصى عليهم السكن في مدينتهم جراء ضعف قدراتهم الشرائية، فشكلوا ضاحية لضاحية بيروت الجنوبية.
وفي الفترة نفسها، أيضاً، تم إطلاق مؤسستين هما: «شباب المستقبل» وأنيطت رئاستها بنادر النقيب، و«جمعية متخرجي الحريري» وترأسها الدكتور بلال حمد الذي فشل في معركة نقيب المهندسين، ليعود ويعوض خسارته بالفوز لاحقاً برئاسة بلدية بيروت قبل عام من اغتيال الحريري (2004).
هكذا راح الحريري يعمل في أطر مدنية مستقلة بعضها عن بعض، وبما يحول دون استهدافه سياسياً ومنعاً لاستفزاز خصومه، وجعل نفسه ضابطاً أوحد لحراك هذه المؤسسات ذات الوجه النقابي والتربوي، يعاونه سليم دياب الذي سطع نجمه عام 1999 وطغى حضوره وتأثير على من عداه من رموز، ما اضطر الدكتور حسني المجذوب إلى الاستقالة من كل مهامه والهجرة الى الولايات المتحدة حيث يقيم فيها متقاعداً الى الآن.
لم يترك دياب شاردةً ولا واردةً إلا وبحث فيها عن كيفية إيجاد موطئ قدم لنفوذ الحريري. فكان اقتراحه الذي نفذه بإنشاء مديرية الصحة الاجتماعية لتقديم الخدمات للمعدمين وذوي الدخل المحدود من أهالي بيروت (ترأسها الدكتور نور الدين الكوش الذي أصبح لاحقاً مدير عام مستشفى رفيق الحريري الحكومي، وخرج منه عام 2011 متهماً بالفساد الإداري والمالي). انطلقت المديرية بسبعة مستوصفات توزعت على بيروت (4)، عرمون (1)، البقاع الأوسط (تعنايل)، وطرابلس (2)، ثم توسعت بعد اغتيال الحريري ليصبح تعدادها 29 مستوصفاً ومركز للتصوير الشعاعي والمغناطيسي في بيروت، ليلي ذلك تأسيس جمعية اتحاد العائلات البيروتية، وكلف بمتابعتها وليد كبي وهو مهندس برتبة مدير في شركة «أوجيه لبنان».
كل هذه الجمعيات والأطر بقيت كيانات مستقلة وموزعة، هدفها توسيع أطر التواصل والتفاعل مع مختلف الفئات والطبقات لتوفير قاعدة ارتكاز أساسية لماكينة انتخابية توفر شرعية شعبية للرئيس رفيق الحريري. وقد سجلت أوج انتصاراتها في انتخابات عام 2000 التي كرسته زعيماً لا يمكن استبداله أو تجاوزه على رغم وصفه قانون الانتخاب حينها بالجائر، وبأن هدف واضعيه هو تحجيمه أمام الرئيس لحود ما استنهض حالة شعبية اقترعت له، ورفدتها أخرى بخرقين شمالاً: الأول في الضنية عبر الدكتور أحمد فتفت، والثاني في طرابلس عبر الدكتور سمير الجسر اللذين شكلا علامة فارقة على ما كان يسمى حينها بـ«المحادل» و«اللوائح المعلبة والفائزة سلفاً».
ذروة الانتصار الحريري عام 2000 استلحق بانتصار آخر في بلدية بيروت ما حسم أمر زعامته حتى صار اسمه قريناً للجمهورية اللبنانية التي ستشهد أقسى اختباراتها الأمنية والسياسية يوم 14 شباط من عام 2005، ليقع البلد وكياناته الطائفية والمذهبية على خط الانقسامات. الانفجار الذي أطاح بـ«الأمل السُني» المنبعث مع وصول الحريري إلى السلطة أعاد مخزون الذاكرة السنية عن التهميش واستهداف قياداتهم ورموزهم منذ اغتيال ناظم القادري، ثم صبحي الصالح، فتصفية «المرابطون»، ليليها اغتيال المفتي حسن خالد، ولاحقاً رئيس الحكومة رشيد كرامي، ما دفع الناس الى الخروج في تظاهرات تطالب بخروج الجيش السوري الذي حملته علانية مسؤولية القهر والإقصاء والاغتيالات لتسعة وعشرين عاماً قضاها حاكماً عسكرياً وأمنياً ومقرراً سياسياً في لبنان.
الغضب السني الذي كانت أشد تعبيراته وضوحاً في 14 آذار من عام 2005 بقي يراوح بين حال الغليان وحال الإرباك الذي هدأ بعد الاتفاق على تولية سعد الحريري القيادة السياسية ووريثاً شرعياً لوالده، وأن تتولى أرملته نازك الحريري مسؤولية المؤسسات الاجتماعية والتربوية.
في هذه اللحظة السياسية بدأ الضغط على سعد الحريري الآتي من فراغ سياسي لإنشاء إطار منظم قادر على التفاعل مع الكتلة السنية على مساحة لبنان كله، حيث تم الاتفاق على إطلاق «تيار المستقبل» في إطار سياسي، خصوصاً أن الحاجة باتت ملحة بعد انتخابات عام 2005 التي أفضت الى كتلة نيابية واسعة شملت تقريباً غالبية مناطق أهل السنة.
التيار سيحصل على ترخيصه عام 2007 لينطلق بتأسيس فوقي إداره وترأسه سليم دياب مرتكزاً على مثلث أضلاع في تشكيلاته التنظيمية وهي: جمعية بيروت للتنمية، شباب المستقبل، ونقابات المهن الحرة. وقد عبر عن هذا المثلث توازن قوى. إذ أدار التيار جمعية التنمية، بينما شكل قطاع المهن والنقابات الفاعلية الميدانية، ليبقى قطاع الشباب الحلقة الأضعف الى حين ترؤس احمد الحريري هذا الإطار. وفي الأثناء، تم تأسيس مكتب تنفيذي شمل كل المناطق ذات الغالبية السنية. والاستثناء كان في شخص وهوية الصحافي جورج بكاسيني. هذا الإطار كان فعلاً تعبيرياً عن إطار تنفيذي له علاقة بالتواصل مع الجمهور السني وبعض الجيوب المناطقية، في حين أن صناعة القرار ارتبطت بمستشاري سعد الحريري مع حضور وتأثير مباشر لسليم دياب الذي حُمل مسؤولية التطور الدراماتيكي ومسؤولية ما حصل في 7 أيار 2008 كونه كان مسؤولاً عن الشركة الأمنية "Secure Plus" والميليشيات التي أنشأها في بيروت والمناطق وبلغ عديدها 13200 عنصر، تدرب بعضهم في معسكر برقايل في عكار تحت إشراف ضباط متقاعدين منهم محمد العجوز، حسان فليفل، محمود الجمل، وعميد حمود. الأخير لمع دوره بعد أحداث 7 أيار من خلال محاولته إعادة هيكلة الإطار «الميليشيوي» لكنه فشل في مهمته، الى أن انفجرت الأحداث في سوريا حيث تردد اسمه كثيراً في قضايا تهريب سلاح ومقاتلين الى الداخل السوري، ناهيك عن دوره في إنشاء ما عُرف بـ «المحاور» في التبانة وجبل محسن في العاصمة الثانية طرابلس.
بعد أحداث 7 أيار وما سبقها لجهة إيهام الرئيس سعد الحريري بأنه يمكنه الركون إلى قوة عسكرية قادرة على إحداث توازن مع من اختصمهم، ما دفعه الى القول في أحد تصريحاته «الشارع بالشارع» وحين وقعت الواقعة وجد أن الطريق الى قريطم لا يوجد عليها حتى عابر سبيل، اتُخذ القرار بإقصاء دياب، وتعيين مدير الداخلية السابق حسن السبع أميناً عاماً للتيار، مشفوعاً بسردية صحافية تضمنت إهانات طاولت دياب. وتم تسريب القرار إلى جريدة «السفير» التي نشرته في رئيسيتها الأولى وضمنتها رواية كاملة عن مسؤولية التيار في تأسيس ميليشا وجر البلد إلى ما وقع فيه، ما دفع الحريري الذي أنكر على الدوام وجود السلاح الى الغاء قرار اقصاء دياب، والاستعاضة عن ذلك بتشكيل لجنة خماسية برئاسة أحمد الحريري وعضوية فايز مكوك، انطوان اندراوس، صالح فروخ، وسمير ضومط، كانت مهمتها اعادة هيكلة التيار والدعوة الى المؤتمر الاول الذي سينعقد في تموز 2010.
المؤتمر الذي عُلقت عليه آمال عريضة لإنتاج قوة سياسية تنظيمية متجددة تعكس روح العصر عجز عن أن يكون تياراً بالمعنى الليبرالي، وفشل في أن يكون حزباً بالمعنى التقليدي، خصوصاً انه أعاد الارتكاز الى المثلث الاول مع فارق القوة التي ظهر عليها قطاع شباب المستقبل. وخير مثال على ذلك ان الامانة العامة قامت على ثلاثة عناصر: احمد الحريري أميناً عاماً، سمير ضومط أميناً عاماً مساعداً للشؤون التنظيمية، وصالح فروح أميناً عاماً مساعداً للفعاليات التمثيلية. الاول من قطاع الشباب، والثاني من المهن الحرة، أما الاخير فمن جمعية التنمية. هكذا انقلب تراتب الأدوار ليحل قطاع الشباب أولاً، ثم المهن الحرة التي حافظت على موقعها الثاني، فيما حلت جمعية بيروت في الموقع الثالث. كما تم إنتاج مكتب تنفيذي جديد تقاسم فيه الحصص والنفوذ قطاعا المهن الحرة والشباب. واضيفت الى المكتب التنفيذي تلاوين اشتملت على قطاعات متعددة كانت في الشكل تعكس اتساع رقعة التمثيل الشعبي للتيار، لكنها في المضمون كانت تهدف الى قضم حيثية المهن الحرة على المستوى القطاعي والنقابي.
في عام 2011 بدأت ورشة عمل تنظيمية حقيقية استمرت تقريباً حتى نهاية عام 2012 وشهدت محاولات جدية لإنتاج هيكل تنظيمي جرى العمل على تثقيفه سياسياً وتنظيمياً، لكن هذا الأمر اصطدم بثلاثة عوامل:
1 ــــ خروج سعد الحريري من رئاسة الحكومة، ما احبط اندفاعة المستقبل قيادة وتنظيماً، ناهيك عن الارتباك الذي صار سمة الحركة السياسية للتيار برمته.
2 ــــ بدء الأزمة المالية وانعكاسها بشكل مباشرة على مسؤولي المناطق، أي الدوائر الصغرى، حيث حُجبت المخصصات الشهرية عن هؤلاء، اضافة الى تقليص جميع النشاطات، وانتفاء المساعدات في المؤسسات الشقيقة أي «مؤسسة الحريري»، «مديرية الصحة»، و«مكتب المساعدات».
3 ــــ نشوب صراع غير معلن بين الثالوث الذي نهضت عليه الامانة العامة. ففي هذه الفترة تنامى دور نائب رئيس التيار والامين العام المساعد للشؤون التنظيمية سمير ضومط على حساب الامين العام احمد الحريري الذي تقاطعت مصالحه مع المتضرر الاكبر الأمين العام المساعد للفعاليات التمثيلية صالح فروخ. ودخل على خط الصراع المهندس خالد شهاب منسق عام شؤون الانتخابات كمتضرر أيضاً من دور ضومط علماً ان مصالح مشتركة وصداقة قديمة تربط بينهما.
هكذا تعطل الفعل التنظيمي، واصيب التيار بجمود سياسي، واقتصر الفعل السياسي على ممارسة شعبية سطحية تمثلت بزيارات لا تعد ولا تحصى الى المناطق وكانت كلها زيارات مجاملة، لم تمنع لاحقاً من تراجع حجم التيار وحضوره. كما ان الغياب الطويل لسعد الحريري والجمود الذي حصل على مستوى التيار مصحوباً بانسحاب وضمور الكادرات السياسية والثقافية والاعلامية والتنظيمية أدى الى أمرين:
الأول: شلل تام على مستوى الهيكلية التنظيمية.
الثاني: تململ شعبي وتراجع وانحسار عبر عن نفسه في كل الاستحقاقات السياسية والاجتماعية والنقابية آنذاك.
هكذا راح التيار يزداد ترهلاً وانكماشاً ترافق مع «أحادية» طبعت أداء الامين العام احمد الحريري، قبل ان يفاجئ الرئيس سعد الحريري ما تبقى من تياره وجمهوره بمبادرته الاولى بترشيح النائب سليمان فرنجية لملء الشغور الرئاسي. ناهيك عن الارباك الذي أصيب به الحريري شخصياً بعد تسريب مبادرته إعلامياً. ويضاف الى ذلك تراجعه عن هذه المبادرة والاستدارة نحو ترشيح ميشال عون، الأمر الذي فاحت منه رائحة تسويات لمصالح مالية على حساب المصلحة السياسية. وما بين المبادرتين كان المستقبليون مصابين بما يشبه «صمت القبور»، فكل من فرنجية وعون كان خصماً شرساً للحريرية السياسية منذ أن كانت.
ورداً على كل حالة الارباك والانحسار والتململ دعا الحريري الى مؤتمر عام ثان انعقد على مدار يومي 26 و27 تشرين الثاني 2016، وأراده تظاهرة سياسية من دون الاستناد الى الواقع الحقيقي للتيار. كانت رغبة الحريري هذه خشبة الخلاص لسمير ضومط لاخراجه من دائرة الاتهامات المتراكمة على أدائه «الشخصاني» وتورطه في صفقات تجارية مع خصوم سياسيين، ناهيك عن فشله حتى في الحفاظ على الهيكل التنظيمي الذي كان قائماً بعد المؤتمر الاول، وكان يصلح قاعدة جدية لبناء تيار سياسي اكثر فعالية مما انتهى اليه الحال. لهذا نسب ضومط أكثر من عشرة آلاف عضو بينهم حتى حرس الرئيس سعد الحريري بهدف تشكيل المؤتمر الثاني بهيئة عامة قوامها 2400 عضو، غالبهم يفتقد الى التجربة السياسية والتنظيمية، كما أنهم لم يكونوا يوماً حزبيين داخل التيار.
عملياً انتهى المؤتمر فور انعقاده إذ أدى غرضه الاستعراضي. إذ لم تجر أية مناقشات جدية للورقة السياسية التي حملت في طياتها بعضاً من خطاب الجبهة اللبنانية عام 1976 خصوصاً في ما يتعلق بسلاح منظمة التحرير الفلسطينية، لا بل اكثر من ذلك ورد فيها بالحرف مقولة «فتح لاند» في منطقة العرقوب. كما لم يقدم أية رؤية مستقبلية لها علاقة بأزمة النظام أو السلطة أو حتى مؤسسات الدولة، ولم تحمل أية رؤى عن علاقة لبنان بمحيطة العربي ولا بالقضايا الإقليمية، ولا حتى بموقع لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي بمعناه العريض، اللهم إلا من باب التعرض لسلاح حزب الله كشعار استُخدم ولا يزال للتعبئة السياسية التي تؤدي عن قصد أو عكسه الى شحن مذهبي لطالما هدد لبنان.
أما الورقة الاقتصادية والتي لم تناقش، حتى أنه أثناء تلاوتها كادت القاعة أن تخلو إلا من قلة قليلة، فإنها جاءت كمرافعة عن النظام الاقتصادي اللبناني وتشوهاته البنيوية منذ كان لبنان. وبدت في نقاط عدة وكأنها تأتي رداً على «الإبراء المستحيل» لدفع كل ما كان يُحمّل للرئيس الشهيد رفيق الحريري من سياسات مالية رتبت اعباء على الاجيال اللبنانية القادمة، ناهيك عن إغفال بدا وكأنه قصدي لكل القضايا التي تهم الطبقات الشعبية المتوسطة والفقيرة، بما في ذلك التأمينات الصحية والاجتماعية والتربوية.
الأسوأ ان التعديلات التنظيمية في النظام الداخلي التي تم اقتراحها من لجنة المؤتمر لم تناقش نهائياً، وتم التصويت عليها بطريقة عشوائية واستعراضية من الرئيس سعد الحريري نفسه.
هكذا، أنتج المؤتمر مكتباً سياسياً كان يتوسع ويتمدد كالمطاط استجابة لرغبة من هنا، واستجداء من هناك، أو ضحكة أنثوية من هنالك، حتى بدا وكأنه مسرح «شانسونيه». والمفارقة الاغرب ان تياراً يدعي الليبرالية والديموقراطية أطاح بالعملية الانتخابية إذ حرص على الإتيان بمن لا حيثية لهم عبر تعيين اكثر من ثلث الأعضاء، في حين ان الثلثين جاؤوا بانتخابات شكلية معلبة ادت الى خروج من تبقى من جمعية التنمية وتقليص دور قطاع المهن الحرة وتعزيز قطاع الشباب وحضوره في مختلف المواقع والمراكز التنظيمية.
في ما انتهى اليه المؤتمر من هيكلية وبنية تنظيمية تحكم ويتحكم بهما منطق العائلة، والولاء الأعمى، جعل من التيار فضاءً لهواة في السياسة أو أفقاً لطامحين بدليل خلو الحياة السياسية والإعلامية من شخصيات مستقبلية بالمعنى الحزبي وليس النيابي. ومن المفارقات الغريبة تنظيمياً وسياسياً أن يدعو التيار الى مؤتمرات فرعية ثانية بعد المؤتمر العام لإنتاج ما يسمى «قيادات المحافظات» (المكتب التنفيذي) الذي أكد أيضاً طغيان قطاع الشباب على مفاصل الحالة التنظيمية، ومن دون ان تكون لدى هؤلاء قدرات جدية الأمر الذي تبدى في اكثر من مناسبة وفي اكثر من منطقة.
كل هذه الوقائع مقرونة بالازمة المالية الحادة التي اصابت الحريري أفضت الى اقفال مديرية الصحة بشكل نهائي، واقفال مراكز مكتب المساعدات في البقاع، والإبقاء على الوجود الشكلي في الشمال وبيروت من دون أي تقديمات فعلية، وتقليص حجم «مؤسسة الحريري». وفي الأساس، فقد شهد التيار خلال الفترة الماضية التي بدأت عام 2012 صرفاً للعديد من الكادرات والعاملين والموظفين والمتعاقدين، فضلاً عن وقف كل ما هو مخصصات حزبية، عدا عن حصرية النشاطات، ما يؤشر الى نهاية مؤجلة ومُعلقة على وقع التسوية السياسية التي عقدها الحريري وافضت الى انتخاب ميشال عون رئيساً، شرط إثبات قدرته على البقاء داخل النظام السياسي.
فالميزانية التقديرية التي بدأ بها التيار وبلغت نحو خمسة وعشرين مليون دولار سنوياً، باستثناء المؤسسات الشقيقة والمؤسسات الإعلامية، تقلصت حالياً الى نحو الثلث الذي لا يزال يشكل عبئاً مالياً ضخماً على الرئيس الحريري خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار غياب الممول المالي وهو السعودية. فهل تكون السلطة بديلاً للحفاظ على التيار ومؤسساته أم سبيلاً لاستعادة ما ضاع من ثروة منن اللبنانيين بخسارتها؟