إحدى المفارقات العبثية أن يسافر رئيس الحكومة سعد الحريري الى دافوس بكل ما تعنيه هذه المنطقة بيئياً وجمالياً، وبما هو أبعد من الحيثية السياسية والاقتصادية لمؤتمرها، فيما لبنان يعيش على وقع فضيحة النفايات على شواطئه.
والمضمر في الإطلالة الدولية الشاملة لرئيس الحكومة بعد أزمته مع السعودية، وسيعقبها مؤتمرات دولية أخرى، هو رغبة الحريري في إعادة تثبيت موقعه كمرجعية لبنانية له علاقاته الدولية الاقتصادية والسياسية، بمعزل عن السعودية وارتباطه بها. وهو هنا يريد استثمار الأزمة التي وضعته في خانة لا تشبه تلك التي كانت لوالده الرئيس رفيق الحريري دولياً بوصفه رجل السعودية الأول محلياً ودولياً، فيعيد إطلاق دوره كرئيس حكومة «مستقل» عن السعودية، له حيثيته ومكانته الخاصة، وكرجل أعمال، فيما لبنان على أعتاب مرحلة نفطية وشراكات دولية في أكثر من قطاع اقتصادي.
لكن هذه الإطلالة التي يستعيد فيها الحريري قبل الانتخابات حضوره دولياً، بعد سلسلة مناسبات محلية، لا يمكن «تقريشها» لبنانياً على المستوى المحلي المحض، في وقت تتفاقم فيه أزمات الحكومة سياسياً وحياتياً: كوضع الكهرباء الذي تدهور في الأسابيع الماضية، والنفايات العائمة التي حوّلتها الأمطار والعاصفة إلى كارثة على جميع المستويات الصحية والبيئة، وسط تراشق للمسؤوليات، عدا عن مسلسل الخلافات السياسية التي لا تنتهي.

الإطلالات الدولية لا «تقرّش» لبنانياً في ظل تفاقم أزمات الحكومة سياسياً وحياتياً



وإذا كانت قضية النفايات تتحول إلى أحد عناوين البازار الانتخابي والسياسي عند كل مفترق طرق، كما حصل أكثر من مرة منذ اندلاع المشكلة، التي يتناسى اليوم جميع الأفرقاء سببها، فإنها أمس أيضاً تحولت الى سلاح انتخابي في يد السياسيين على اختلافهم، الذين انتقدوا أداء وزارة البيئة والحكومة، والمدافعين عنهما. لكن الأزمة أيضاً تفتح ملف أداء الحكومة على اختلاف اتجاهاتها السياسية قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، وتعيد تقويم أداء وزرائها بعد سنة وشهر من تسلمهم حقائبهم، واتجاه معظمهم الى خوض الانتخابات انطلاقاً من وزاراتهم. وتتحول كل قضية حياتية إلى عنوان بذاته لاستدراج عروض للناخبين، حتى لو لم تحل الحكومة المشكلة العالقة.
في عام 1953، كتب الصحافي رشدي المعلوف «مسكينة الحكومة يتصورونها ضعيفة... الحكومة كانت تتمنى أن لا تقصّر في شيء، لو كان عندها حكومة تساعدها على تنفيذ القانون».
لا يمكن أن يكون هناك أصلح من هذه العبارة التي كتبت قبل 65 عاماً، لوصف الحكومة الحالية، وغالباً سابقاتها. فإذا كانت الحكومة الحالية لا تزال تفتش عن مخارج لمشكلة الكهرباء، متذرعة بالعراقيل التي توضع أمامها وبأنها لا يمكن أن تحل أزمة عمرها ثلاثون عاماً، إلا أن ما حصل في ملف النفايات لا يمكن القفز فوقه وتبريره واتهام منتقديها، كالحملة التي شنها أمس على رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، بالتكافل والتضامن، فريقا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، متهمين إياه بالتحرك لأسباب انتخابية، علماً بأن وزير البيئة طارق الخطيب نفسه كان قد قام بأمر مماثل لتحرك الجميل، حين زار قبل أسبوعين منطقة بيت شلالا وبساتين العصي وكفرحلدا في قضاء البترون لتفقد مجرى نهر الجوز بسبب كثرة النفايات المرمية فيه، واتهامه النازحين السوريين بالتسبب بالأزمة.
أما الوعود بلجان تحقيق فلا تعدو كونها امتصاصاً للنقمة ليس أكثر، كما حصل في لجان تحقيق مماثلة في أكثر من ملف فضائحي طوي من دون معاقبة أي متورط فيه.
مشكلة الحكومة الحالية التي خاض لبنان أزمة مع السعودية لاستعادة رئيسها، تكمن في أنها حكومة تتأرجح بين توصيفاتها كحكومة العهد الأولى وحكومة الانتخابات، فيما تتصرف كأنها حكومة تصريف أعمال، وزادت أزمة الحريري من تعثرها. إلا أن أكثر ما هو ثابت في أداء هذه الحكومة أنها فشلت في تحقيق البديهيات التي أوردها الحريري في البيان الوزاري من أن حكومته «تلتزم بدء العمل فوراً لمعالجة المشاكل المزمنة التي يعانيها جميع اللبنانيين، بدءاً من الكهرباء وصولاً الى المياه، مروراً بأزمات السير ومعالجة الملفات البيئية؛ وأبرزها مشكلة النفايات وتلوث مياه نهر الليطاني».
فإنجاز قانون الانتخاب والموازنة لا يفترض أن يكونا منّة من الحكومة، لأن ذلك من البديهيات السياسية. لكن العمل الحكومي يفترض أن يكون أبعد وأكبر من الملفات السياسية الحساسة. فبعد مشهد النفايات الأخير، ليس في كسروان والمتن فحسب، بل في كل لبنان، لم يعد جائزاً الكلام على قانون الانتخاب وتعديلاته ولا على مرسوم الأقدميات ولا حتى على انتهاك اتفاق الطائف، ما دامت البنية الأساسية تصاب باهتراء شامل على كل المستويات الحياتية والبيئية والصحية.
حين أعلنت الحكومة أنها حكومة استعادة الثقة، كان يفترض أنها تتحدث عن ثقة الناس بوعودها، لا عن ثقتهم بأن البيان الوزاري هو مجرد حبر على ورق، وأن النفايات والعتمة للبنانيين، أما دافوس ومثيلاتها، فلرئيس الحكومة وشركائه.