يمتلِك خالد الضاهر قُدرة كبيرة على تبنّي موقِف ومن ثم الانقلاب عليه، وموهبة ــ قلّ نظيرها ــ في سرعة الانتقال من جلباب سياسيّ إلى آخر. فنائب الأمّة، الذي تربّى في مِحراب الحقبة السياسية ــ الأمنية السورية، أدرك مؤخراً أن القطار قد فاته. هو السياسي المُتناقض حتى مع نفسه من دون أن يرف جفنه. قال الضاهر أمس إنه «لا يهمّه المقعد النيابي»، وهو الذي فرض على الجماعة الإسلامية، يوم كان متلهّفاً إلى مقعد نيابي، أن تتبنّى ترشيحه، فنال مبتغاه في انتخابات 1996. في انتخابات عام 2000، انشق عن «الجماعة» احتجاجاً على عدم تبنّي ترشيحه، وخاض غمار الانتخابات «مُستقلاً»، لكنه لم ينجح. ومن «الجماعة» تسلل الى «جبهات» و«جماعات».
في كل حدث شمالي، كان اسمه حاضراً. أحداث الضنية. أحداث مخيم نهر البارد. حادثة قتل الشيخ أحمد عبد الواحد. مجزرة حلبا. ومن التيارات الإسلامية الى حضن تيار المستقبل، فكان له مجد النيابة مجدداً عن عكار في انتخابات عام 2009. عرف الرجل كيف يركب موج التيار الأزرق. راح يمارس رياضة التجذيف والمجازفة. تدريجياً، استُنفِدت بضاعته. لم يعُد أحد على اقتناع بأنه قادر على توفير «بضاعة» تُستثمر في زمن التسويات أو ما قبلها. هو نفسه بات يعلم بأنه غير قادر على رفع قفازات التحدي في وجه أحد. حتى تقديم نفسه «بضاعة عكارية»، صار مرهوناً بالتدقيق في الصلاحية. كل ذلك وغيره ممّا هو مستور، دفعه أمس إلى إصدار بيان رمادي لكن بلغة معسولة، هو أقرب إلى مواساة النفس، يعُلن فيه انسحابه من المعركة الانتخابية لمصلحة تيار المُستقبل.
لم يكُن موقف الضاهر الفاضح لازدواجية خطابه مجرّد سلوك طارئ فرضته ظروف المعركة الانتخابية. هو انفصام سياسي أوقع فيه نفسه حين دعا أنصاره في قلب عكار «ليكونوا الى جانب مشروع سعد الحريري لنحمي لبنان وندافع عنه».
هل انسحاب خالد الضاهر جاء نتيجة ضغط سعودي؟


منذ أشهر قليلة فقط، وتحديداً في لحظة استقالة رئيس الحكومة من الرياض، كان الضاهر أول من أطلّ عبر الفضائيات السعودية لنصرة «ضرب الجنون» الذي أقدم عليه ولي العهد السعودي. الأفدح، أنه كان أول من بايَع بهاء الحريري قولاً، فأعلن في تصريح له أنه «في حال طلبت السعودية يوماً أن نبايع بهاء الحريري فسنبايعه، لأن الأداء السياسي لتيار المستقبل لا يرضيني ولا يرضي الشارع»، فما الذي تغيّر الآن؟ وكيف أصبح أداء تيار المستقبل أفضل وسيلة تحمي لبنان؟
صباح أمس، انتشر خبر زيارة الضاهر لبيت الوسط للقاء الحريري. زيارة تأتي بعد أيام من تظهير خلافه مع الوزير أشرف ريفي. صراع على النفوذ والمرجعية وأمور أخرى أفضى إلى إطاحة التحالف الانتخابي بينهما. انتظر من ريفي أن يتنازل. أن يقيم له حساباً، أقله في عكار مسقط رأسه، لكن اللواء المتجدّد شباباً بعد التقاعد مضى في إحراج الضاهر وإهماله حتى أخرجه.
هكذا، خرج خالد الضاهر من اللقاء مع الحريري مُعلناً عزوفه عن الترشّح في دائرة عكّار. وبما أن «فِعلته» هذه تحتمل الكثير من التأويل، راجت تحليلات كثيرة عن خلفية هذا القرار.
من بين ما قيل إن السعودية هي من أرغمت الضاهر على اتخاذ هذا القرار بعد تعهّدها أمام الحريري «بتنظيف الساحة السنيّة من كل الأصوات العصيّة». ذهب آخرون أبعد من ذلك بالإيحاء إلى «تهديد تعرّض له الرجل بإعادة نبش ملف مجزرة حلبا المتهم بالمشاركة فيها، وأن وعداً تلقاه بطمس القضية وإلإبقاء على بعض الامتيازات التي يحظى بها النواب، كالحماية والسيارات، مقابل انسحابه من المعركة الانتخابية». راجت رواية ثالثة مفادها أن استشعاره عدم قدرته على تأمين الحاصل الانتخابي دفعه إلى المسارعة في الانسحاب من المعركة الانتخابية، على أن يكون ذلك بمثابة ورقة يبيعها للحريري ويستفيد منها في ما بعد.
هذه كلها لا تقدم جواباً حاسماً. الرجل لا يريد أن يخرج من المولد بلا حمص. كان طامحاً بتوزيره ودفع ثمن ذلك انضمامه إلى ركب المستقبليين الذين صوّتوا بنعم كبيرة للعماد ميشال عون في انتخابات رئاسة الجمهورية. ولدت الوزارة، وغاب اسمه. حُلم التوزير لم يفارقه. هل انتزع من سعد الحريري التزاماً ما، على قاعدة فصل النيابة عن الوزارة مستقبلاً، فوجد أن لا ضير بدفع ثمن الوزارة مجدداً بالتخلّي عن مقعد نيابي؟
بعد عودته إلى الشمال، لم يجب خالد الضاهر عن استفسارات الصحافيين. الحريري قالت مصادره إن الموعد جاء ثمرة اتصالات تولاها النائب عقاب صقر والأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري مع خالد الضاهر «الذي بات مقتنعاً بأن لا بديل حقيقياً وجدياً في الشارع السنّي، بل على العكس، الآخرون لا يملِكون إلا مشروع تدمير الحريري والخطّ الوطني والعربي».
«لا أُريد شيئاً لنفسي سوى أن أكون في خطّ الرئيس الحريري للحفاظ على الوحدة الوطنية وتقوية الخطّ السيادي». هذا ما يردّده شماليون تابعوا مسار الوساطة بين الحريري والضاهر نقلاً عن الأخير الذي وعد الحريري «بالعمل على تأمين أكبر دعم للائحة المستقبل في عكار». لا وعود ولا أثمان لخطوة الضاهر. وبحسب المصدر نفسه، تحدّث الضاهر خلال الزيارة عن «شيء خطير حصل معه»، لكنه رفض الإفصاح عنه في المرحلة الحالية، «لأن المجالس بالأمانات». وربط ما حصل بزيارة الموفد السعودي الأخيرة للبنان نزار العلولا، «وما تخللها من التزامات يتابعها حالياً القائم بالأعمال وليد البخاري الذي تربطه علاقة صداقة وودّ بخالد الضاهر»، على حدّ تعبير المصدر الشمالي نفسه.
يتقاطع ذلك مع معلومات تحدثت عن احتمال انسحاب عدد كبير من المرشحين السنّة وغير السنّة ممن قرروا الترشح ضد لوائح رئيس الحكومة في الساعات المُقبلة. من هنا، ثمة مؤشرات تقود إلى الاستنتاج بأن ما حصل مع الضاهر قد يكون عبارة عن «شقلبة» محلية على طريقة النائب العكاري المعتادة أو تجاوباً مع طلب سعودي لا بد أن يحصل الرجل على شيء مقابله، بحسب أوساط تجزم بأنه «ربما يكون قد تلقّى دعماً مالياً».