خرج عدد من الصحافيين الأوروبيين الذين كانوا يتابعون وقائع مؤتمر بروكسيل للنزوح السوري، بانطباع مشترك، مفاده أن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري «خرج من المولد بلا حمص». لقاءات كثيرة جمعته بعدد من قادة الوفود المشاركة قبل المؤتمر وأثناءه. استمع إلى كلمات المشاركين ومداخلاتهم وتوصيات المؤتمر. المحصلة كانت صادمة للوفد اللبناني، وتحديداً للحريري. كاد الرجل يقول للمشاركين إن الزمن اللبناني هو زمن انتخابات ولا شيء يضير إن تكرر سيناريو «سيدر» الباريسي هنا في عاصمة الاتحاد الأوروبي. لم يلتفت أحد إلى الصوت التفضيلي. حاول الحريري أن يخطف «إنجازاً» ولو بالشكل، عبر تعميم «خبرية» إثارته قضية اللبناني نزار زكا مع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف خلال مصافحة على هامش أعمال المؤتمر. «رواية» كهذه يمكنها أن تفيده وتعزز رصيده، وهل ينسى رئيس الحكومة أن الاتصال العاجل جاءه من الديوان الملكي في مطلع تشرين الثاني الماضي، بعد وقت قصير من استقباله مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي في السرايا الكبيرة. إذ ذاك، لم يأتِ الحريري على ذكر قضية زكا، بل عرض أن يؤدي دوراً توفيقياً بين طهران والرياض، فيما خرج ولايتي ليعلن من السرايا الكبيرة أن انتصارات الجيش اللبناني على الإرهاب في عرسال وجرودها تصبّ في خانة انتصار محور المقاومة في المنطقة. في خطابه باسم لبنان، بدا الحريري في بروكسيل ناطقاً باسم «التيار الوطني الحر». تبنى خطاب العودة الفورية للنازحين السوريين وليس إلى ما بعد الحل السياسي كما كان يردد هو وباقي فريقه السياسي سابقاً. هذا الانقلاب في الخطاب الحريري ترك انطباعات سلبية عند مضيفيه الذين كانوا قد جهزوا مسودة بيانهم قبل بدء أعمال المؤتمر، وهم أطلعوا عليها الوفد الرسمي اللبناني الذي يضم الوزير معين المرعبي والمستشار نديم المنلا من الفريق الحريري.
لبنان ذهب إلى مؤتمر بروكسيل بعقلية مؤتمر باريس 4 نفسها. رهان على أموال ومساعدات بعنوان النازحين السوريين، يمكن الحكومة أن تستثمرها انتخابياً عشية الموسم الانتخابي، خصوصا أن العبء الأكبر يقع على المجتمع المُضيف في البقاع وعكار والشمال. كان الرهان على خروج المؤتمر بتسعة مليارات دولار (ثلاثة مليارات زيادة على 2017)، غير أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر. «عومل لبنان ـــ والتعبير هنا لصحافي أوروبي ـــ كأنه حمار مطلوب منه تحمل أعباء النزوح» في انتظار تمويل غير موجود. طلب الحريري دعماً بأقل من ثلاثة مليارات دولار، غير أنّ للمجتمع الدولي حساباته المختلفة، إن في موضوع النازحين أو في الأزمة السورية وحلها السياسي المؤجل أو في العنوان اللبناني.
هذه الحسابات عبّرت عنها مداخلات المتحدثين باسم الأمم المتحدة ووكالاتها، كذلك وفود الدول والمؤسسات المانحة. الأولوية لمساعدة النازحين السوريين والمجتمعات الأكثر حاجة وضعفاً وهشاشةً. لم يأتِ أحد من هؤلاء على ذكر المجتمعات المضيفة نهائياً، وخصوصاً لبنان. الأموال التي حصل منظمو المؤتمر على تعهدات بجمعها بالكاد تصل إلى نحو 4.4 مليارات دولار، أي أقل بنحو ثلاثين في المئة من تلك التي كانت مقدرة في عام 2017، علماً أن الخط البياني للحاجات يتصاعد وفق تقارير معظم المؤسسات الدولية. وبحسب المنظمين «يمكن التعهدات أن تبقى مجرد تعهدات، والبعض قطعها خجلاً، أو قد تكون مرتبطة بمسارات الحرب السورية ومآلاتها». هنا، يتكرر سؤال القرار السياسي بإعادة النازحين السوريين. لا إرادة سياسية بتلك العودة ولا إرادة سياسية بدعم أكبر للمجتمعات المضيفة، وتحديداً لكل من لبنان والأردن وتركيا.
الأنكى من ذلك كله أن الأوروبيين تحديداً، كادوا يقولونها بالفم الملآن للحريري: لبنان مدين لنا باستقراره. نقمتكم (النزوح) هي نعمتكم. القرار الدولي والإقليمي بحماية الاستقرار اللبناني لم يتبدل. هذه مصلحتنا ومصلحتكم. أي اهتزاز للاستقرار اللبناني سيرتد علينا تدفق موجات من النزوح. لكم الاستقرار والنزوح، ومنا التزام حماية معادلة الاستقرار والتعهدات (فقط التعهدات) بالدعم المالي. معادلة اختبرها الحريري شخصياً، عندما احتجزه السعوديون، وأدى الضغط الأوروبي، وخصوصاً الفرنسي، إلى الإفراج عنه بأسرع ما كان يتوقع هو وعلى عكس ما كان يشتهي ولي عهد السعودية محمد بن سلمان.
لبنان ذهب إلى مؤتمر بروكسيل بعقلية مؤتمر «سيدر» الانتخابية


من هنا، كان وعد الجهات المانحة بتقديم مساعدات بقيمة 4.4 مليارات دولار، تخصص للمدنيين المتأثرين جراء الحرب في سوريا. هذا المبلغ يعدُّ أقل من نصف ما طلبته الأمم المتحدة لعام 2018، لمساعدة النازحين داخل سوريا واللاجئين في دول الجوار، ويبلغ 9 مليارات دولار. بريطانيا «وعدت» بتقديم 450 مليون جنيه لعام 2018، فيما قالت ألمانيا إنها «ستتكفل» بنحو مليار يورو. الاتحاد الأوروبي «تعهد» بتخصيص 560 مليون يورو. اللافت للانتباه أن الولايات المتحدة الأميركية، وعدداً من المانحين البارزين، لم يحددوا أي رقم مفترض لحجم مساعداتهم المرتقبة، وهو ما جعل حصيلة وعود المؤتمر أقل مما كان مأمولاً العام الماضي. أما تركيا، فقد استغلت منبر المؤتمر، كعادتها، للتذكير بمظلوميتها في الإنفاق على اللاجئين السوريين، مطالبة الأوروبيين بدفع المبالغ المترتبة عليهم وفق اتفاقية «إعادة اللاجئين» التي منعت تدفقهم إلى دول أوروبا الشرقية.
النقص في التمويل يهدد وفق «منظمة تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة» (أوتشا) بوقف بعض برامج المساعدات. وقد خرج بيان مشترك عن أبرز المنظمات غير الحكومية العاملة في هذا الشأن، يحذّر من انعكاسات هذا النقص في التمويل على جهود المساعدة الإنسانية. الجانب الأوروبي يأمل تسخير ملف المساعدات للضغط على دمشق وحلفائها، والدفع نحو عملية «الانتقال السياسي». هذا التوجه عبّرت عنه مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، بالقول: «نريد من روسيا وإيران بنحو خاص ممارسة الضغوط على دمشق لتقبل الجلوس إلى الطاولة تحت رعاية الامم المتحدة».
في المقابل، بدا أن الموقف الروسي المتحفظ إزاء مقاربة الاتحاد الأوروبي، عبر عنه عبر غياب تمثيل رفيع المستوى، فحضر سفير موسكو لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير شيزهوف، الذي اعتبر في بيان أن «من المحيّر حيال اجتماع اليوم (أمس)، لكونه لم يشمل ممثلين عن الحكومة السورية التي تسيطر على غالبية الأراضي السورية ويعيش في مناطق سيطرتها أكثر من 90% من السكان داخل سوريا»، متهماً الدول التي تستمر في فرض العقوبات على سوريا بـ«خنق الشعب السوري».
ومن دون أي تنسيق مسبق، بدا الموقف الرسمي اللبناني متحفظاً على مسارات المؤتمر لكن لاعتبارات لبنانية. فقد اعتبر وزير الخارجية جبران باسيل أن بيان المؤتمر الختامي «يتعارض مع سياسة لبنان العامة المتعلقة بالنازحين السوريين»، واستهجن «اللغة المعتمدة التي تدرج من جهة مفاهيم ومصطلحات جديدة غير متفق عليها وغير مقبولة لبنانياً كمفهوم «العودة المؤقتة» و«العودة الطوعية» أو «خيار البقاء»، ومن جهة أخرى، يتهم البيان الدول المضيفة بطرد النازحين قسراً، وهو أمر لم يتم إطلاقاً من قبل لبنان».
واستنكر باسيل «أسلوب الترهيب والتخويف المعتمد في البيان، على الرغم من اعتراضه العلني سابقاً على هذا التوجه الذي يغضّ النظر عمداً عن تحسن الوضع الأمني في سوريا». وشدّد على مواقفه السابقة «الرافضة رفضاً قاطعاً ونهائياً لمبدأ التوطين أو «الاندماج في سوق العمل» الوارد في البيان». ورأى أن العودة الآمنة والكريمة إلى المناطق المستقرة داخل سوريا «هي الحل الوحيد والمستدام لأزمة النازحين»، كذلك أبدى رفضه «ربط العودة بالحل السياسي للصراع في سوريا الذي قد يطول، وذلك مع تأكيده احترام لبنان لمبدأ عدم الإعادة القسرية».
كذلك رأى أن اللهجة المتبعة في البيان «تدفع إلى التشكيك في بعض النيات الدولية وإلى التمسك أكثر بموقف لبنان الرافض لأي مبدأ يتعارض مع دستوره ويهدد هويته».
وكان مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة»، قد اختتم أعماله، بمقررات ختامية تلاها المفوض الأوروبي للمساعدات الإنسانية وإدارة الأزمات كريستوس ستيليانيديس، فأكد أن الأولوية «لإيجاد حل سياسي في إطار مسار جنيف، والانتقال الديموقراطي إلى سوريا مستقلة، كما وضعنا حلولاً للتحديات الإنسانية، وركزنا على الحماية والتعليم والآلية التنفيذية لتقديم المساعدات، ولا بد من تعزيز الصمود والمعافاة الاقتصادية. كذلك ركزنا على دور الدول المجاورة لسوريا».
التوجه الأوروبي الذي كان محور النقاشات الجانبية في اجتماع بروكسل، سيُبحَث في اجتماع تستضيفه باريس، اليوم، ويشارك فيه ممثلون عن دول عدة أبرزها السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا.