قضاء الضنّية، في منتصف الأسبوع. هدوءٌ لا يُشبه صخب «المدينة»، البعيدة عنه كيلومتراتٍ قليلة. جميلةٌ هي الضنّية. «ايه بس مهمولة ومحرومة»، يردّ توفيق. هو الجواب «التقليدي»، الذي يُردّده الناس في معظم المناطق. وغالباً ما تكون هذه العبارة «حقيقية». كلّما بعدت المسافة بين العاصمة والقرى، ارتفعت نسبة الإهمال وزادت حاجات السكان. هذا هو الواقع في الضنية «الخضراء». في البدء، كانت الطبيعة في الضنّية… و٣٧٠ نبعاً للمياه. التشوهات التي تسبّبت بها يد الإنسان، لم تؤثر في «السحر» العامّ لهذا القضاء، صاحب «البوابات» الثلاث: طرابلس، الهرمل، المنية.الانتخابات النيابية هي «موسم» الوعود الخدماتية. كلّ القوى السياسية، «تذكّرت» الضنيّة، في الأشهر القليلة الماضية. لم يبق مُرشّح، أو رئيس لائحة، أو مسؤول حزبي، إلا وطرق أبواب بيوتها. هي المنسيّة لسنوات طويلة. صور الناخبين تنتشر بكثرةٍ مُذيلة طبعاً بشعارات «لزوم ما لا يلزم». لو اكتفى المُرشحون بصورهم وأسمائهم، هل كان سيتدنّى عدد المُقترعين لهم؟
تقول مصادر مركزية في «المستقبل» إنّ التصويت سيُترك حرّاً، فلا فرق إن فاز فتفت أو عبد العزيز


في الشكل، تحتلّ صور النائب السابق جهاد الصمد ومُرشح تيار المستقبل سامي فتفت، صدارة المشهد. تليها، من حيث العدد، صور النائب قاسم عبد العزيز. للأخير، حضور «شكلي» مُرتفع في بلدته بخعون. رُفعت صور بقية المُرشحين أيضاً في القضاء، ولو بدرجةٍ أقلّ وأحجامٍ أصغر: محمد الفاضل وجهاد اليوسف (المُرشحان على لائحة تيار العزم)، أسامة أمّون (مُرشح لائحة الوزير السابق أشرف ريفي)، أحمد شندب (مُرشح على لائحة كمال الخير)… يتنافس المُرشحون على نشر الصور، على رغم إجماع الماكينات الانتخابية أنّها «تُستخدم فقط للإيحاء بأنّ للمُرشح حيثية شعبية». المعركة الأساسية تدور بين جهاد الصمد من جهة، وتيار المستقبل من جهة أخرى. الجبهة الأخيرة، تنقسم بدورها إلى اثنين، وعنوانها معركة الصوت التفضيلي بين قاسم عبد العزيز وسامي فتفت. أما تيار العزم، وعلى رغم محاولاته شدّ العصب، فلا يعتبر الضنّية «معركته». وميقاتي، منذ تشكيل لائحته، اختار أصلاً اسمين لا يستفزان «الحليف» السابق، جهاد الصمد. أشرف ريفي وصَل إلى الضنّية مُتأخراً، لأنّه لم يكن يحسب أنّ القانون الانتخابي سيجمعها مع طرابلس ساحته الأساسية.

زمن الآغاوات
أقدم منازل الضنّية، يملكه «الآغا» محمد أحمد نصّوح الفاضل. البيت عمره ٨٠٠ سنة. شهد على حُكم آل فاضل وآل رعد للضنّية، كما على «ثورة الفلاحين» في الـ١٩٥٨، بوجه الآغاوات. هذه الثورة التي أطلقها مرشد الصمد (والد جهاد الصمد) ومحمد خضر (والد أحمد فتفت)، وانتُخبا بفضلها نائبين. «الفلاحان» تحولا إلى «مُورثين» سياسيين: من الأب إلى ابنه، والآن هو زمن الأحفاد (سامي). أما الفاضل، فبعد أن خسر أملاكه بسبب السياسة، عاد اليوم ليُنافس من أطاح بزعامة عائلته المناطقية، على مقعد نيابي. «بيرجعوا الآغاوات، بس بدِّك تلاقيلن شي انتداب»، يقول شابّ من تيار المستقبل. هو يقصد «السخرية» من ترشيح الفاضل، «ما بيأثّر علينا… لازم نحصّل الـ١٥٠٠ صوت يللّي بيخسّرنا ياهن جهاد اليوسف». المعركة، هي «بيننا وبين الصمد». أما ميقاتي، فقد زار القضاء (الثلاثاء الماضي) «لأنو صرنا مع طرابلس، وكانت كلّ اللافتات معلقها مكتبو، مش الناس مبادرة. مشكلتنا معو انو عم يدفع عا الصوت».

ما حدا عملنا شي
بلدة سير ــ ساحة جمال عبد الناصر. قبل الظهر، «الناس بتنام لأنها عم تسهر كتير. هلّق انتخابات»، يُعلّق رجلٌ أمام أحد المحال. هذا هو سوق سير. حشد مقاهٍ يجتمع فيها الناس. تيار المستقبل، بالنسبة إلى عددٍ منهم، «هو الأقوى في الضنية». لماذا التيار الأزرق؟ «لأنّه الأعدل، ومشروعه واضح. يُحاول أن يبني دولة، ولكن ليس بوسعه أكثر من ذلك بوجود حزب الله». لا يوافقون على أنّ ريفي يُشكّل خياراً بديلاً، «بحقّلوا يشقّ طريق بعيد عن بيت الحريري وهنّي وصّلوه؟ متلو متل جهاد اليوسف». ماذا أفادكم وجود «المستقبل»؟ يردّ الأكبر سنّاً بينهم: «ما حدا عملنا شي. بيت كرامي كانوا حاكمين الشمال، مشروع واحد ما انعمل لطرابلس». يزعمون، أنّ الوزير السابق فيصل كرامي «سيوعز إلى الناخبين الذين يمون عليهم أن يقترعوا للائحته من دون صوت تفضيلي، حتى لا يتقدّم عليه الصمد». ماذا عن استبدال النائب أحمد، بابنه سامي فتفت؟ «شو الفرق بين الأب وابنه. الدكتور أحمد جاب المستقبل عا المنطقة»! قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّ فتفت خسر البلدية لمرتين، وقد أعلن رئيسها أحمد علم دعمه لميقاتي، خلال زيارة الأخير إلى الضنية قبل أيام. يقول مسؤول محلي في سير إنّ «ذلك دليلٌ أنّ أحمد فتفت لا يملك الأكثرية في بلدته. ضعف أحمد، هو وراء قرار ترشيح سامي».
الترجيحات تشي بفوز عبد العزيز لا فتفت، لا سيّما، أنّ مُنسقية «المستقبل» في الضنية «تعمل علناً لمصلحة عبد العزيز». السبب يعود إلى انتخابات المُنسقيات الزرقاء، حين كان فتفت يُناصر معتز هوشر ومحمود هرموش، في مُقابل نظيم الحايك (المُنسق الحالي). مصادر مركزية في «التيار»، تنفي ذلك، مُعتبرةً أنّ «التصويت سيُترك حرّاً للناخبين، فلا فرق إن فاز فتفت أو عبد العزيز».
العصب الضناوي قائم على ثلاث نقاط: العصب العائلي/ المناطقي، الخطاب السياسي، والحضور الاجتماعي للمرشح وخدماته الشخصية. هذه الأخيرة هي «نقطة ضعف» أحمد فتفت، التي باعدت بينه وبين الناس، ما صعّب من مهمّة ولده. مُقربون من العائلة ينفون ذلك، «الدكتور أحمد الوحيد الذي يملك مكتباً خدماتياً، ولكن طريقة عمله تختلف عن البقية». يقولون إنّ «الأرضية تُحبّ فتفت لأنّه من أسّس التيار في الضنية». لا ينفون وجود أخطاء، «بعد ٢٢ سنة، من الطبيعي أن تظهر عيوبٌ ما». النقص يُحاول سامي أن يعوضّه «من خلال لعب دور الشاب الخدماتي ــ الشعبوي». هو أسلوب الصمد، «والذي ينجح سامي من خلاله في استقطاب فئة جديدة من الناخبين». ولكن كان فتفت يعتمد أيضاً على أصوات الناخبين القواتيين، إلا أنّ المُنسقية في الضنية تحشد من أجل محمد الفاضل المرشح على لائحة ميقاتي.

الترحم على زمن سوريا
هناك ثلاث ماكينات لـ «المستقبل» في الضنية: الماكينة المركزية، ماكينة عبد العزيز، وماكينة فتفت. لا يوجد تنسيق بين الثلاثة. فقد حصل أن حاول عبد العزيز استمالة ناخبين محسوبين على فتفت، والعكس أيضاً، ما استدعى فصل الاشتباك التفضيلي. عبد العزيز، هو طبيب بخعون والنائب منذ الـ٢٠٠٥. في تلك الفترة، كان مع النائب محمد الصفدي. إلا أنّ طلب الأخير من عبد العزيز التصويت لميقاتي في الـ٢٠١٠، أدّى إلى تفرّقهما وانضمام الطبيب إلى تيار المستقبل. يواجه الطبيب معركة شرسة في بلدته مع جهاد الصمد. النفوس محتقنة إلى درجة أنّ تعليق صورة، يؤدي إلى تبادل إطلاق النار بين أنصار الرجلين (كما حصل قبل قرابة الأسبوع)، وتُهدَّد بخعون بفتنة داخلية. ويقول أحد أبناء بخعون، «لا يجب أن تكون المعركة داخل بلدتنا، فالاثنان سيربحان، لماذا المشاكل؟». نعم، لا داعي لانتظار ٦ أيار، فقد حُسمت هنا النتيجة!
يشكو مناصرو جهاد الصمد من «كثرة الضغوط الأمنية، إلى درجة الترحم على الاستخبارات السورية. يوقف الحاجز الأمني صاحب السيارة المُخالفة، ويطلب من المُخالف الاتصال بأمين عام أحد التيارات ليتوسط له». في الشارع، اتهامات للصمد بأنّه يُمّول معركته بمساعدة نجيب ميقاتي، مُقابل نفيه لذلك. يقول الصمد لـ «الأخبار» إنّ ما يُميزه عن بقية المُرشحين عدم طرح اسمه من قِبل أحد، «أنا الوحيد الذي أملك قرار ترشيحي والمرجعية هي أهل الضنية». واليوم يخوض معركة «ضد استبدال وصاية بوصاية أخرى».
من بخعون إلى السفيرة، إحدى أكبر البلدات في الضنية. مسقط رأس النائب السابق أسعد هرموش، الذي وصلت المفاوضات بينهم كجماعة إسلامية وتيار المستقبل، إلى دعم الأخير، وتحديداً قاسم عبد العزيز. إلا في سير، حيث قرّرت «الجماعة» دعم فتفت. الوصول إلى السفيرة، يعني المرور بجانب زوابع الحزب السوري القومي الاجتماعي، المرسومة على حائط دعم الطريق. «نحنا هون عنّا تيار المستقبل، وحزب سبعة، والميقاتي وجهاد الصمد»، يقول رجل من آل هرموش، ويسارع للشكوى «لا نراهم (السياسيين) إلا حين يحتاجون صوتنا».



جهاد اليوسف: أُنافس «المستقبل»
يوم الثلاثاء، زار رئيس تيار العزم نجيب ميقاتي الضنية، حيث استقبلته أعلام تيار المستقبل في قرصيتة، بلدة جهاد اليوسف. تقول مصادر «العزم» إنّه سبقت الزيارة «تهديدات تلقيناها، ما اضطرنا إلى تعزيز الموكب الأمني، وقد مُزقت بعض الصور قبل الزيارة».
الهدف من الزيارة كان «شدّ العصب»، لا أكثر، لأنّ الأهم بالنسبة إلى نجيب ميقاتي هو تعزيز حصّته في طرابلس. لا يوافق اليوسف على هذا الكلام. «أرقامنا إلى تصاعد، وقريباً سنواجه تيار المستقبل». يعتبر اليوسف أنّ الكرة الآن في ملعبه «والمنافسة بيني وبين مُرشحَي المستقبل». ماذا عن زميله محمد الفاضل؟ «الآغا جماعته معروفون، وهو ممكن أن يكون قادراً على استقطاب داعمين لتيار العزم».


يوم لك... ويوم عليك
المُرشح على لائحة الوزير السابق أشرف ريفي، أسامة أمون، ينتمي إلى منطقة الضنية الغربية التي تضم قرابة 37 في المئة من الناخبين وغير الممثلة على بقية اللوائح. يُخبر عن عدم القدرة على تحديد مزاج الناخبين، «الشخص نفسه الذي يدعونا لنزوره، يدعو غيرنا بعد نصف ساعة. وتغيير الصورة على شرفة البيت نفسه، يتم بين يوم وآخر». بدأ أمّون معركته متأخراً، تماماً كريفي «الجديد في الضنية». يعتبر أنّ الأقوى في الضنية هو جهاد الصمد، وقاسم عبد العزيز لدى تيار المستقبل. ولكن، «أُكرّر أنّه لا يُمكن حسم شيء. الأسماء الأكثر تداولاً بين الناس هي الصمد، سامي فتفت، عبد العزيز، جهاد اليوسف، محمد الفاضل، وأسامة أمون». وهنا أيضاً، شكوى من «الضغوط الأمنية التي تُمارس على الناس، وتهديد الناخبين بوظائفهم».