في دائرتي الشمال الأولى (عكار) والثانية (طرابلس والمنية والضنية) انتهاكات لا تُحصى ولا تُعَدّ. لا يُمكن فصل المخالفات عن مسار الاستحقاق الانتخابي في السادس من أيار. لو أرادت هيئة الإشراف رصدها، لسجّل الشمال بدائرتيه الأولى والثانية أرقاماً قياسية في تجاوز القانون. فوضى، انتهاكات بالجملة والمفرق، رشىً علنية، تغطية مخالفات، ورش بناء، حفر آبار، زفت، توظيف ومهل إدارية للمقالع والكسارات.نفوذ تيار المُستقبل في الشمال واضح وضوح الشمس. تعيينات وتوظيفات وترقيات ومحسوبيات في الوظائف العامة. جميعها وسائل يستخدمها التيار الأزرق تعويضاً عن شحّ المال. ليس تيار المستقبل وحده من يلجأ إلى أساليب الانتخابات الملتوية. بعض خصومه يعمدون إلى استخدام الرشى الانتخابية ذاتها، إن من خلال دفع الأموال مباشرة للناخبين، أو تعيين مندوبين للوائح ببدلات مالية كبيرة. في طرابلس مثلاً يقدَّر عددهم بـ 10 آلاف مندوب، بدأوا يتقاضون الأموال منذ أكثر من شهر.
عاصمة الشمال المهجورة سياسياً منذ سنوات، التفت إليها الرئيس سعد الحريري قبل فترة وجيزة من موعد الانتخابات. بدأ بدفع التعويضات المستحقة، من مساعدات الترميم المُنجز والترميم المتضرر وإعادة الإعمار، وقد شملت نحو 170 متضرراً حتى الآن. ومن الباب الانتخابي ذاته، نال صندوق المهجرين حصّته أيضاً. منذ أيام، يشهد مكتب الصندوق الكائن في مشروع الرئيس رفيق الحريري في القبة عمليات صرف شيكات للمتضررين، ومعظمهم من لون سياسي واحد، على أن يستكمل دفع كل التعويضات الباقية في مراحل لاحقة، بعد إتمام المُعاملات اللازمة.
في عكار، فوجئ أهالي حلبا بتعيين أكثر من 20 مياوماً في هيئة أوجيرو (ثمانية مراكز في عكار، عُيِّن موظفان إلى ثلاثة في كل مركز). توزع نحو 80 مياوماً على باقي أقضية دائرة الشمال الثانية. ينال كل واحد من هؤلاء نحو 50 دولاراً يومياً، إلا إذا كان من فئة المستشارين، فعندها حدث ولا حرج. التوظيف العشوائي يلقى تجاوباً من البعض ورفضاً من البعض الآخر. في حلبا، اعترض أهالي وفاعليات ومخاتير وبلدية حلبا، فأعلنوا «رفضهم المُطلق لما يجري من استخفاف بهم من قبل مؤسسات الدولة ووزاراتها». ليس اعتراض أهالي حلبا وفق بيان صادر عن المجلس البلدي، على المبدأ. هم يعترضون على تعيين عشرة موظفين جدد في فرع «هيئة أوجيرو» في حلبا، جميعم من خارج بلدتهم، فيما وضعت طلبات أبناء حلبا على لائحة الانتظار. الأهالي أكدوا «أننا لن نقبل أن نكون مجدداً مكسر عصا، وعلى الجميع أن يُدرك أن حلبا مركز المحافظة ليست لقمة سائغة لتلبية أهدافهم السياسية والانتخابية».
ردّ الفعل على التوظيفات السياسية أدى بدوره إلى إلغاء زيارة وزير الاتصالات جمال الجراح التي كانت مقررة لعكار، واستدعت تدخلاً من الأمين العام لتيار المُستقبل أحمد الحريري، الذي وعد خلال زيارته المنطقة بحلّ الأمر وقبول طلبات أبناء حلبا بعد الاستحقاق الانتخابي مباشرة.
أما في منطقة العبدة أو بوابة عكار، كما يُطلق عليها، وصولاً إلى الحدود الشمالية لجهة محافظتي الهرمل والضنية، فحدث ولا حرج. مخالفات الصور واللوحات الدعائية التي انتشرت في عكار أخيراً، لم تميز بين أماكن عامة وخاصة. زُرعت 150 لوحة إعلانية خلال أسبوع واحد، بتغطية أمنية واضحة ومن دون الحصول على التراخيص المطلوبة من وزارة الداخلية والبلديات.
أما مشهد الشاحنات، فيبدو أكثر استفزازاً عند بلوغ طريق عام حلبا والطريق الساحلية الدولية. حركة الشاحنات التي تنقل الرمول والأتربة من الكسارات العملاقة على الحدود بين القبيات وبيت جعفر، تبدأ منذ السابعة صباحاً وحتى الرابعة فجراً. أدت هذه الحركة إلى عرقلة وصول جمهور التيار الوطني الحر للمشاركة يوم السبت الماضي في مهرجان إعلان لائحة «عكار القوية» بحضور الوزير جبران باسيل في الكواشرة.
كل ذلك يجري على مرأى ومسمع من محافظ عكار عماد لبكي غير المكترث بما يجري. الأخير لم يكلف نفسه حتى عناء تحديد وقت لعبور الشاحنات، التي تسبب زحمة سير خانقة تزامناً مع انطلاق الطلاب إلى المدارس وعند ساعة العودة. فضّل الوقوف في موقف المتفرّج. في الموسم الانتخابي، تمكن حيتان المال في عكار من الحصول على مهل إدارية للمقالع والمرامل والكسارات (من ستة أشهر إلى تسعة أشهر) قابلة للتمديد تلقائياً (نموذج المجدل وتكريت).
مشهد الفوضى مُستمر. الرخص العشوائية أدت الى إزالة جبال بأكملها، كما هو واقع الحال في بلدات الحوشب والسويسة وكروم عرب. مُخالفات واضحة جرى بتغطية رسمية واضحة «وعلى عينك يا قوى أمنية»، لا بل بمباركتها. وكما جرت العادة، عمَد أصحاب الأرض إلى الحصول على رخص حفر 200 متر لتشييد منزل أو قاعة أو ملعب تحت غطاء حفر جبال بأكملها.
فظاعة المشهد على الحدود الواقعة بين محافظتي عكار والضنية أدت إلى موجة اعتراض واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي. فوجئ الناشطون البيئيون خلال رحلة في المنطقة، بزيادة حجم التعديات بنسبة تزيد على 50 في المئة، بحسب رئيس «مجلس البيئة في عكار» أنطوان ضاهر. قال الأخير إن جبالاً بأكملها تندثر، وما يجري معيب للغاية، متسائلاً عن «دور المحافظين والقوى الأمنية والوزارات المعنية من داخلية وبيئة وزراعة».
الانتهاكات والرشى الانتخابية لم تقتصر على التيار الأزرق. يعمَد بعض المرشحين ممن لُزِّموا ملف وزارة الأشغال في عكار، إلى عرض خدمات الوزارة على رؤساء البلديات وفاعليات القرى، في محاولة لرفع رصيدهم الانتخابي. وبالرغم من أن وزارة الأشغال قد خصصت عكار في موازنة عام 2018 بمبلغ 11 مليار ليرة، إلا أن واقع الطرق المزري للغاية، حتى في مركز المحافظة دفع الجميع إلى التساؤل عن أموال وزارة الأشغال. كيف صرفت؟ أين إجازات العمل؟ ولماذا لم تنفذ؟
الزفت الانتخابي لم يلقَ تأييداً لدى جميع الناخبين. البعض رحب بالزفت. البعض الآخر اعترض، وخصوصاً رؤساء بلديات جرد القيطع، مؤكدين «أن الزفت المخصص لعكار هو حق أبناء عكار».