على أوتوستراد صور ـــ الزهراني، زُرعَ أخيراً سهم حديدي كتب عليه «المصيلح». الهدف هو «اهتداء» الوفود القادمة من الجنوب إلى دارة الرئيس نبيه بري. صارت بلدة المصيلح وجهة الكثير من الوفود والمواكب منذ أن انتقل إليها بري لمواكبة الحملات الانتخابية لحركة أمل في الجنوب كله. على مدى ربع قرن، حوّل بري الآتي من بلدة تبنين (قضاء بنت جبيل)، المصيلح من حيّ إلى عاصمة. الحي الذي يتبع بلدة المروانية الهادئة في قضاء الزهراني، كانت معظم عقاراته شاغرة باستثناء جزء يقيم فيه العرب المجنسون. حي شاغر سكنياً في قضاء شاغر أيضاً من الزعامة. اختار بري ترسيخ زعامته في هذه النقطة تحديداً. كانت تبنين (سجل قيد آل بري لا يزال هناك حتى يومنا هذا)، واقعة ضمن المنطقة الجنوبية المحتلة منذ عام 1978. زد على ذلك، أن بري ابن بيروت، وتحديداً منطقة المزرعة. والده ملاك ومن المحسوبين على شيعة العاصمة. مع كل ألماسة في أفريقيا، كانت تفتح أبواب رزق للعائلة في لبنان، وخصوصاً في قطاع العقارات.
عندما انتهت الحرب الأهلية، وكان جزء من الجنوب قد تحرر في عام 1985، راح رئيس حركة أمل يبحث عن جغرافيا تستقبله بين تبنين وبيروت. شيّد، بناءً على نصيحة أصدقاء كثيرين، دارته على تلة وسطية تمسك بالجنوب وأقضيته. من المصيلح، خرج نائباً عن قضاء الزهراني ورئيساً لمجلس النواب منذ عام 1992، حتى يومنا هذا.
الاختيار يقود إلى استعراض التطور السياسي للزهراني منذ عقود. أرض بور اجتذبت زعامات من خارجها. وبرغم التطور الاقتصادي والتعليمي الذي عمّ المنطقة، وخصوصاً بسبب قربها من مدينة صيدا، لم تنتج ظواهر سياسية لافتة للانتباه.
تبدو الانتخابات النيابية، اليوم، في دائرة الزهراني ـــ صور، بروفة. في الزهراني، ترشح عن المقعدين الشيعيين أربعة، بينهم نبيه بري وعلي عسيران. وعن المقعد الكاثوليكي، ترشح ستة؛ بينهم ميشال موسى. أما في صور، فقد ترشح عن المقاعد الشيعية الأربعة، 11 مرشحاً، بينهم مرشحو حزب الله وأمل الأربعة (علي خريس، عناية عز الدين، حسين جشي ونواف الموسوي). هؤلاء المرشحون كلهم أنتجوا لائحتين فقط: الأمل والوفاء (تحالف حزب الله وأمل) و«معاً نحو التغيير» (تحالف الحزب الشيوعي اللبناني والمستقلين ورياض الأسعد، وضمناً التيار الوطني الحر الذي تبنى ترشيح الكاثوليكي وسام الحاج في الزهراني)، حتى إن لائحة المعارضة لم تكتمل بانسحاب المرشح الشيعي الثاني في الزهراني. وعليه، فإن أحد المقعدين الشيعيين في الزهراني، يعتبر فائزاً بالتزكية قبل السادس من أيار!

الزهراني: ملعب الكبار
أحيا بري في الزهراني تجربة عادل عسيران. ابن صيدا لجأ في عام 1943 إلى المنطقة بسبب حصر التمثيل النيابي في مدينته بالسنّة. استفاد من ضمور الزعامات المحلية في هذه المنطقة. من دارته في صيدا، مثّل الزهراني حتى عام 1992 عندما أهدى بري المقعد لعلي عسيران تكريماً للبيت السياسي الاستقلالي العسيراني (ترأس عسيران مجلس النواب بين 1953 و1959). الاستثناء كان في دورة عام 1964، عندما خسر عادل عسيران أمام ابن النبطية عبد الكريم الزين.
قد تسقط شكوى البعض من مصادرة التمثيل المحلي في الزهراني، أمام واقع أن القضاء برمته لم يكن موجوداً على الخريطة الانتخابية والإدارية. المنطقة الواقعة بين النبطية وصور والزهراني وإقليم التفاح، كانت تعرف تاريخياً باسم إقليم الشومر، لكثرة انتشار نبتة الشومر فيها. ولأن صيدا عاصمة الجنوب، كانت الأقرب إليها جغرافياً، ارتبطت بها حتى التماهي، إدارياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، علماً بأن الزهراني منفصل انتخابياً، في حين يرتبط بصيدا إدارياً.
في عام 1957، استحدث رئيس الجمهورية كميل شمعون دوائر انتخابية عدة، منها دائرة قضاء الزهراني، مبقياً على التقسيم الانتخابي لعام 1943، بتخصيص مقعد نيابي واحد للشيعة فيه، في وقت كان فيه الجنوب دائرة انتخابية واحدة. استحداث شمعون دائرة الزهراني لم يكن إنصافاً للمنطقة، بقدر ما كان جزءاً من تكتيك يهدف إلى تشتيت قوة خصومه. في عام 1960، استحدث الرئيس فؤاد شهاب مقعداً كاثوليكياً في الزهراني «كرمى لعيون ابن صور يوسف سالم (شقيق توفيق سالم رئيس الأركان في الجيش اللبناني في زمن شهاب) الذي كان نائباً عن صور، لكنه فشل في الفوز بنيابة الزهراني. اقتطع شهاب من جزين، مغدوشة وكل قرى شرقي صيدا وساحل جزين المسيحية وضمّها إلى دائرة الزهراني لتشكل مع قرى القضاء كتلة مسيحية وازنة»، وفق ابن مغدوشة الباحث بهيج الناشف. يرى الأخير أن المنطقة «لم تكن مستقلة يوماً، بل تابعة إما لصيدا أو لجزين ومرتبطة بالزعامات الكبرى. وبرغم أنها صدّرت رئيسين لمجلس النواب، لم تكن سوى عبارة عن ملعب شاغر يتبارز عليه الكبار».
بلغ اللعب بالزهراني ذروته في دورة 1964، عندما أعيدت قرى شرقي صيدا ومغدوشة إلى جزين. في تلك الدورة، كان مرشح حزب الكتائب راشد الخوري ابن مغدوشة أول نائب عن المنطقة من أبنائها، ليخلفه في عام 1992 ابن بلدته ميشال موسى، وما تبدل الاسم تبديلاً حتى يومنا هذا، حاله كحال علي عسيران. تبدلت وجوه كثيرة في كل أقضية الجنوب، وظلت وجوه ممثلي الزهراني ثابتة منذ 26 عاماً.

تنافس على ولاء العائلات
شيعياً، لم تبرز زعامات محلية من عائلات هذه الدائرة. شكل الزهراني حديقة خلفية للعائلات الإقطاعية. أبرزها آل عسيران التي تملكت منذ عهد العثمانيين عشرات آلاف الدونمات. ضمنت العائلة ولاء الناس بملكيتها للأرض التي يسكنها الناس ويعملون فيها مع عائلاتهم في قطاع الزراعة، وخصوصاً بساتين الحمضيات والموز. قبضة أحمد الأسعد على الجنوب كانت تلين أو تشتد في الزهراني بحسب علاقته بعادل عسيران. أحد أوجه التحالف والتخاصم، هو التنافس على ولاء العائلات في بلدات وقرى الزهراني. وفي حين قررت عائلات في مغدوشة والصرفند وأنصارية وعدلون أن توالي آل عسيران، قررت عائلات أخرى في الغازية، أن توالي آل الأسعد. المحظي ببركة الزعامات والبكوات المحليين، نال لقب «قبضاي»، مختار، رئيس بلدية، أو نال وظيفة في الدولة. اللافت للنظر أن بلدة الطيبة (مقر زعامة آل الأسعد) كانت تتحكم بمصير الزهراني، برغم وجود فروع لآل الأسعد في الزرارية والعاقبية (البيسارية)، من دون أن تضطلع بدور بارز لأسباب تاريخية حصرت الزعامة الأسعدية بالطيبة.
برغم أن المنطقة صدّرت رئيسَي مجلس نواب، كانت تاريخياً ملعباً شاغراً يتبارز عليه الكبار


عودة إلى التاريخ. فقد فتّت الأتراك الزعامات الشيعية في جبل عامل، ومنها زعامة ناصيف النصار (مقر زعامته في تبنين) الذي قتل في معركة يارون مع جيش أحمد باشا الجزار. تفرقت ذريته بين الطيبة (جب خليل الأسعد) والزرارية (جب محمود الأسعد) والعاقبية (جب شبيب الأسعد). الحملة المصرية بقيادة إبراهيم باشا لاحقت آل الأسعد في الزرارية، فلجأوا إلى عكار قبل أن يعودوا إلى تبنين. لكن وريثهم ناصيف انتقل إلى اسطنبول قبل أن يعود إلى الزرارية، فيما استقر شبيب الأسعد في اسطنبول. غيابهما عن المشهد، كرّس الزعامة للطيبة.
عام 1992، أحيا سعيد الأسعد جب الزرارية. صديق الرئيس حافظ الأسد نزل على لائحة بري في الانتخابات النيابية مع صديقه حبيب صادق عن المقعدين الشيعيين في قضاء حاصبيا ومرجعيون. كانت الانتخابات النيابية الأولى من نوعها منذ عقدين من الزمن. أراد بري أن لا يترك فراغاً يجعل آل الأسعد يتسللون إلى السياسة من خلال مقعد نيابي. حظي اليساريان الأسعد وصادق بمقعدين، لكنهما سرعان ما اختلفا مع بري. في انتخابات 1996، قررا خوض المعركة هذه المرة من موقعهما المعارض، فكانت النتيجة خسارة حالة تمثيلية كان يراد لها أن تتمايز عن حالة نواب حزب الله وأمل في الجنوب. لاحقاً، قرر سعيد الأسعد ترك السياسة. لكن نجله رياض اختار السير بعكس التيار، بأن حاول على مدى نحو عقدين من الزمن تكريس حالة اعتراضية جنوبية، لا تشبه حالات الاعتراض المفبركة أو المصطنعة.

رياض الأسعد: نؤسس لحالة تغييرية
منذ دورة 2000، يكاد رياض الأسعد أن يكون المرشح الشيعي الوحيد في الزهراني في مواجهة نبيه بري وعلي عسيران. هزيمته المتكررة لم تثنه عن محاولة تشكيل جبهة معارضة من المستقلين والشباب والأحزاب اليسارية العلمانية، وخصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني. محاولات أعطت ثمارها في الانتخابات البلدية والاختيارية في عدد من القرى والبلدات الجنوبية. وحده الأسعد يجابه حالياً بري وعسيران معاً. يرى بأن لائحة «معاً نحو التغيير» التي يخوض من ضمنها انتخابات 2018 ، تصارع سداً منيعاً تعزز بجعل الحاصل الانتخابي في القضاء أعلى حاصل بين الدوائر (حوالى 25 ألف صوت). وبرغم أنها المرة الأخيرة التي يترشح فيها في حال عدم فوزه، يؤكد الأسعد أن لائحة «معاً نحو التغيير» تؤسس لحالة تغييرية سوف تتمظهر في الاستحقاقات المقبلة.
طموح رياض الأسعد يقابله يأس آخرين من معارضي حزب الله وأمل في الزهراني. هؤلاء إما فئة منكفئة أو مرتهنة لمصالح شخصية. قلة عدد المرشحين والتضييق الذي يتعرض له المرشحون المنافسون من معظم الناخبين، لا يؤشر إلى التغيير. وهنا، يخرج من يستعرض لائحة طويلة من «فضائل بري على المنطقة يكون أقل الواجب تجاهها رد الجميل له بانتخاب لائحته».

انكفاء نقابي وعمالي!
المدارس الرسمية التي شيدها مجلس الجنوب في كل بلدة وشبكات الطرق والجسور والمياه والكهرباء والصرف الصحي ومجمع نبيه بري للمعوقين ومرفأ نبيه بري للصيد والنزهة في عدلون وجامعة فينيسيا ومشروع إيواء العائلات المحتاجة في الصرفند ومكتب المصيلح المفتوح دائماً للمراجعات والخدمات. هذا غيض من فيض الحضور الطاغي لحركة أمل وقدرتها على تجيير حضورها في السلطة في شتى الاتجاهات.
في مواجهة حضور كهذا، هل توجد نوافذ للخرق؟ لا يتوقع الناشط السياسي المحامي محمد حديب (من الغازية) تغييراً جذرياً في الزهراني. يستعرض النسب الضئيلة لانخراط أبناء المنطقة في الأحزاب التغييرية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. أحزاب تغييرية اجتاحت معظم الجنوب، إلا الزهراني برغم أنها منطقة ساحلية ومحاذية للمدن. يفسر حديب تمسك غالبية أبناء المنطقة بالمنظومة الإقطاعية سابقاً ثم بالقوى النافذة حالياً، بما يسميها «قوى الإنتاج التي اعتمدت على التجارة والسفر والصناعة والسياحة»، ويشير إلى أن من برز من أبناء المنطقة في الأحزاب اليسارية والقومية «لم يمارس حراكه في مسقط رأسه، بل في بيروت»، فالحركات النقابية والعمالية لم تنشط في المنطقة، حتى إن الانتقال من حكم الإقطاع إلى سيطرة أمل أولاً وحزب الله ثانياً، تم بسلاسة لأسباب؛ أبرزها استيعاب بري لآل عسيران.