في خضمّ موسم الانتخابات النيابية، أطلقت الأحزاب السياسيّة في لبنان، سلسلة من الوعود السياساتيّة، الّتي تراوح بين اللامركزيّة والإنماء المتوازن، وبين توفير الرعاية الصحيّة الشاملة وإصلاح نظام التقاعد. وفي حين أنّ التعبير عن مثل هذه المواقف السياساتية لا يتطلّب منهم الجهد الكثير، فإنّ مهمّة شرح الطريقة الفضلى لتحقيق هذه الوعود تختلف كلّ الاختلاف، إذ يحتّم ذلك على السياسيّين أن يتمتعوا بمستوى أدنى من الإلمام بالسياسات بالإضافة إلى اتّساق مواقفهم بشأن عدد من القضايا المترابطة حتّى تكون لوعودهم صدقيّة. وبعبارة أخرى، يتعيّن على الأحزاب السياسيّة عند الدعوة إلى اعتماد سياسة محدّدة من قبيل توفير الرعاية الصحيّة الشاملة أو مكافحة الفقر، أن تقترح تدابير ماليّة لبلوغ هذه الأهداف. ضمن إطار عمل المركز اللبناني للدراسات الّذي يتناول البرلمان، سعينا إلى تحديد مواقف النوّاب من السياسات المتّصلة بمجموعة من سبع وعشرين قضيّةً تتضمّن اللامركزيّة، الضرائب، الفقر، الرعاية الصحيّة، دعم القطاعات الإنتاجية، قانون الإيجارات، الخدمات العامّة، الملكيّة العامّة، حقوق المرأة، عقوبة الإعدام، من بين جملة أمور أخرى، إضافةً إلى تحديد مستوى التزام المدافعة عن هذه السياسات، من خلال النظر في اتّساقها مع مواقفهم من سياسات أخرى ذات صلة. ولهذه الغاية، قابلنا خمسة وستّين نائباً من مختلف الأحزاب السياسيّة من بين المشرّعين الـ128، وهم النوّاب الّذين وافقوا على إجراء المقابلة، وذلك خلال عامي 2015 و2016، لنسألهم عن تفضيلاتهم السياساتيّة.
للوهلة الأولى، يبدو أنّ النوّاب يدعمون بشدّة توفير الرعاية الصحيّة لجميع المواطنين، وتوسيع اللامركزيّة على مستوى القضاء، والحدّ من أوجه التفاوت الاجتماعي، وحماية الملكيّة العامّة، وخفض الضرائب على بعض السلع الاستهلاكيّة الأساسيّة، أو حتّى إلغاءها، ومنح المرأة الحقّ بإعطاء الجنسيّة اللبنانيّة لزوجها وأولادها. غير أنّ تأييدهم هذا يتلاشى عند التمعّن في تفضيلاتهم المتّصلة بسياسات أخرى.
لنأخذ مثل اللامركزيّة. فعلى الرغم من تأييد النوّاب القويّ لإنشاء مجالس أقضية منتخبة، لا تتّسم مواقف الكتل النيابية حول صلاحيات هذه المجالس باتساق قوي. ويدعم بعض النوّاب إعطاء صلاحيات واسعة لمجالس الأقضية حتّى تتمكّن من بلورة المشاريع وتنفيذها، فيما يعتقد آخرون بوجوب حصر هذه الصلاحيات ببضع مسؤوليّات. وليس تضارب الآراء بحدّ ذاته ما يطرح إشكاليّةً، لكنّ عدم الاتّساق الذي تنمّ عنه أجوبة النوّاب عند سؤالهم عن الموارد الماليّة التي يتعيّن تزويد مجالس الأقضية بها.
عند مقارنة المواقف التي أعلنها النوّاب بشأن صلاحيات مجالس الأقضية بمواقفهم من الموارد الماليّة التي يجب تخصيصها لهذه الأقضية، برزت إشكاليات أخرى عديدة. ذلك أنّ ربع النوّاب الذين قابلناهم أعربوا عن آراء غير متناسقة بشأن اللامركزيّة. فهم يحبّذون منح صلاحيات محدودة لمجالس الأقضية، لكنّهم يؤيّدون تزويدها بموارد ماليّة كبيرة، لا تتناسب مع مسؤوليّاتها. وبدا أنّ أربعة وعشرين نائباً، أي ثلث النوّاب المُستَطلَعين، مفرطو الحماسة بشأن اللامركزيّة إلى حدّ يضرّ بالدولة، إذ إنّهم يحبّذون منح صلاحيات واسعة لمجالس الأقضية ومدّها بموارد ماليّة أكثر من اللازم، تزيد على نسبة الـ35% المعتمدة معياراً مرجعياً دوليّاً. ومن الجليّ أن عدم الوضوح هو في أحسن الأحوال سيّد الموقف في ما يتّصل بكيفيّة المضيّ قدماً في موضوع اللامركزيّة.
وبالانتقال إلى مجموعة أخرى من السياسات، عبّر النوّاب عن دعمهم القويّ لجهود الدولة الهادفة إلى الحدّ من أوجه التفاوت الاجتماعي وبلورة برامج متكاملة للحدّ من الفقر، إلاّ أنّهم غير مستعدّين لاستتباع ذلك بالسياسات الملائمة لبلوغ هذه الغايات. على سبيل المثال، يمكن التعامل مع أوجه التفاوت الاجتماعيّة بطرق شتّى، مثل خفض الضرائب على الاستهلاك، أو زيادة الضرائب على الدخل أو الأرباح، أو بلورة برامج مكافحة الفقر، أو تعديل قانون الإيجارات الصادر عام 2014، أو أي مزيج ممّا تقدّم. ومن أصل النوّاب الثلاثة والأربعين الذين يدعمون الحدّ من أوجه التفاوت الاجتماعي، تسعة وعشرون فقط مستعدّون لخفض الضرائب على الاستهلاك، ما من شأنه أن يساعد على تقليص الفجوة، لكون الضريبة على الاستهلاك تنازليّة. أربعة وعشرون منهم فقط مستعدّون لزيادة الضرائب على الدخل والأرباح[1]، وسبعة عشر فقط يريدون إلغاء قانون الإيجارات الصادر عام 2014.
بدا أن 24 نائباً، أي ثلث النوّاب المُستَطلَعين، مفرطو الحماسة بشأن اللامركزيّة إلى حدّ يضرّ بالدولة 


وقد تكون الآراء السياساتيّة لبعض النوّاب ذوي الانتماءات السياسيّة المختلفة متقاربة في حالات أخرى، ولكن لم يجرِ البناء على هذا التلاقي للتشريع. ونسوق هنا مثال الرعاية الصحيّة. ففيما أعرب النوّاب بأغلبيّتهم الساحقة عن دعمهم لتوفير الرعاية الصحيّة لجميع المواطنين، لم يتحوّل هذا التوافق إلى سياسة ملموسة يستفيد منها المواطنون. في الوقت عينه، يبدو أنّ قانون الإيجارات الذي أقره البرلمان عام 2014 هو الأكثر إثارةً للجدل من بين القضايا السبع والعشرين، إذ إنّه قد حقّق أدنى مستوى من التوافق بين النوّاب الّذين قابلناهم. وقد دعمه نحو ثلث النوّاب، فيما أعرب الثلثان الباقيان عن معارضتهم له أو عن حيادهم. وما يدعو إلى الاستغراب، أنّ القانون قد نجح بحصد ما يكفي من الأصوات لإمراره، على الرغم من محدوديّة الدعم الّذي يحظى به. كيف يمكن إذاً لقضيّةٍ لا تتمتّع إلاّ بالقليل من الدعم الفعليّ أن تتحوّل إلى قانون، في حين أنّ مسألة الرعاية الصحيّة الشاملة التي تحظى بمستوى عالٍ من التوافق لم تستحل بعد واقعاً ملموساً؟ لا شكّ في أنّ ذلك يلقي بظلال قاتمة على صدق المواقف السياساتيّة التي أعرب عنها النوّاب خلال المقابلات، أو على قدرتهم على البناء على التوافق وتحويله إلى سياسة تعالج حاجات الناس.
سيطلق النوّاب والمرشّحون الحاليّون ــ بلا شكّ ــ مجموعة من المواقف السياساتيّة، لكنّهم لن يتمعتعوا بأيّ صدقيّة إن لم يتقدموا بتفاصيل محددة حولها. طبعاً، يمكن بعض النوّاب المشاركة في حوار فعليّ بشأن السياسات مع الجمهور، كما مع المشرّعين زملائهم. إلاّ أنّ عدداً كبيراً منهم قد أثبتوا، خلال ولايتهم، أنّهم يفتقرون إلى فهم القضايا الأساسية، أو أنّهم غير مستعدّين للسعي إلى تحقيق المصلحة العامّة. وسيتطلّب تحسين ذلك على الأرجح، وإن كان على نحو تدريجي، تحقيق نقلة لدى الناخبين للمطالبة بتحلّي قادة البلاد المنتخبين بالكفاءة. وعندها، يمكن أن نتوقّع من المرشّحين والأحزاب أن يعتمدوا برامج سياساتيّة وتفضيلات سياساتية واضحة ومحددة في حملاتهم الانتخابية.

[1] في الواقع، 20 فقط من أصل 43 نائباً مستعدّون لخفض الضريبة على الاستهلاك وزيادة الضريبة على رأس المال. وفعليّاً، قلّما يسهم ذلك في تقليص التفاوت في الدخل.