الانتخابات غداً محطّة مهمّة جداً، وأهميتها لا تنحصر في تجديد السلطة بالوسائل الشرعية هذه المرّة، بل هي مهمّة ايضاً في توقيتها. فهي تجري بعد 9 سنوات على آخر انتخابات نيابية، حصلت في خلالها أحداث جسام وتحولات كثيرة في لبنان وخارجه، وتحديداً في سوريا وعلى «جبهاتها»، ولعل أشدّها تأثيراً، ارتفاع عدد سكان لبنان من 4.3 ملايين نسمة في عام 2010 الى نحو 6 ملايين نسمة حالياً.على الرغم من أن التحليل الشائع يركّز في قراءته للنتائج المتوقعة على ارتباط الداخل بالمحاور الاقليمية، إلا أن أكثر هذه النتائج وضوحاً يظهر في «الاقتصاد»، فالنظام اللبناني يواجه مرة اخرى مشكلة تمويله ويفرضها كأولوية مطلقة، وهو مضطر الى تعديل حالته قليلاً بما يمنحه المزيد من الوقت المكلف.
في سياق القراءة الاقتصادية، تظهر اللحظة الراهنة كأنها «مفصلية»، على غرار لحظة انتخابات عام 1992، أو ما سمّاه ألبير منصور «الانقلاب على الطائف»، مع الاختلاف الكبير جداً بينهما وظروفهما طبعاً. ففي تسعينيات القرن الماضي، احتاج النظام بعد الحرب الى تمويل ما سمّاه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري عملية «شراء السلم الاهلي بالمال»، وجرى تقديم ذلك كشرط لتجديد النظام نفسه بعد حرب أهلية طويلة ومدمرة وموجعة، أوجبت التكيّف مع الحقائق الجديدة. يقول سليم نصر (سوسيولوجيا الحرب في لبنان) إن الحراك الاجتماعي القسري في الحرب «أدّى الى تراجع وزن بعض الطبقات الاجتماعية، لا بل اضمحلالها بالكامل، والى استنزاف طبقات اجتماعية اخرى، والى خلق شرائح اجتماعية جديدة أحياناً». وبالتالي، فإن هذا المجتمع المتغيّر في الصميم كان القاعدة الاجتماعية التي بني عليها «النهوض السياسي والاقتصادي» بعد الحرب، والذي قاده جيل جديد صاعد من «أثرياء الخليج» و«أثرياء الحرب»، مثّله الحريري أفضل تمثيل، برعاية سورية ــ سعودية مباشرة.

لحظة 1992 أو اختراع «الحل السحري»؟
يومها كما اليوم، واجه النظام مشكلة تمويله. بعد احتلال العراق للكويت (1990 ـــ 1991)، طارت كل الوعود بإنشاء «صندوق إعادة إعمار لبنان» بتمويل من الدول العربية النفطية وبدعم اميركي ـــ اوروبي.
عندما تواجه مشكلة التمويل، تلجأ الدولة الرأسمالية الى سياسات «قص الشعر»، أي خفض الدين العام أو خفض كلفته (طواعية أو جبراً)

وكان البديل المنطقي في ظروف ما بعد الحرب، يتمثل بالتمويل عبر الضرائب المباشرة على الارباح والريوع وتغليب الاستثمار على الاستهلاك وتفعيل الدولة ودورها ووظائفها... الا أن هذا البديل لم يكن سيغري الجيل الصاعد من المترسملين، ولا سيما «أثرياء الحرب»، الذين وجدوا انفسهم مهددين بخسارة مكاسبهم السابقة وضمور سلطتهم. «أثرياء النفط» وجدوا في هذه «الحاجة» فرصة ذهبية لتقديم «الحل السحري»، بحسب وصف شربل نحاس (برنامج اقتصادي اجتماعي من أجل لبنان). ففي ظل الرهان على تسوية وشيكة مع اسرائيل، تمهّد لقيام «الشرق الاوسط الجديد» الذي تعمّ فيه المنافع بدلاً من القلاقل، تم تسليم ادارة عملية التمويل المطلوبة الى الحريري، عبر «استجلاب الرساميل الخاصة من الخليج بكثافة»، فتم منح هذه الرساميل كل الامتيازات الممكنة بحجّة جذبها، بما فيها تخفيض معدلات الضريبة على الدخل، وإعفاء الفوائد والربح العقاري من أي ضرائب، وتثبيت سعر صرف الليرة، ومصادرة وسط بيروت لحساب شركة عقارية ضخمة تتمتع بإعفاءات وحوافز قانونية استثنائية وفريدة، وتسخير الاملاك العامة في خدمة الاستثمارات الخاصة بدلاً من المنفعة العامة... الا أن «التسوية الاقليمية» لم تتحقق، وانقلب «وعد الربيع» الى «كابوس مالي». ففي مقابل تراجع الايرادات الضريبية واعتماد سياسة توزيعية مسرفة، عززت الفورة الاستهلاكية ورفعت اسعار الاراضي، وبدأت تتكون ما سيُعرف لاحقاً بأزمة المديونية العامّة وارتفاع كلفة خدمتها.
شيئاً فشيئاً، اشتدت سيطرة رأس المال المصرفي والعقاري الى جانب المصالح التجارية على الاقتصاد السياسي للدولة، وانتقلت السلطة الفعلية في الاقتصاد الى مصرف لبنان، بوصفه المسؤول عن ضمان ادارة تدفق الرساميل الخارجية وتوظيفها في تمويل النظام وديمومته. وهكذا، سوّغ السياسيون التعامل مع «الاقتصاد» كشيء مستقل عن «السياسة» او «الشأن العام»، انطلاقاً من مزاعم استقلالية المصرف المركزي عن الحكومة وعدم خضوعه لأي رقابة أو مساءلة برلمانية، وصولاً الى اعتبار المصارف كيانات غير خاضعة للسيادة الوطنية... وهكذا ايضاً، صار «الاقتصاد» محصّناً ضد «الديمقراطية» المزعومة، ولا سيما في شكلها المتمثل في الانتخابات النيابية، التي تسوّق كأداة تضمن تمثيل مصالح أكثرية الناخبين في الدولة.

ماذا يفعل البنك المركزي في الواقع؟
توجد اسباب عدّة كي يكره الناس الارقام، فهي تصيبهم بالملل، لأنها تبدو لهم مثل الطلاسم، فارغة من أي دلالات اجتماعية. إلا أن الارقام ضرورية لفهم ما حصل بعد 1992، ومحاولة فهم ما قد يحصل بعد 2018.
يصنف لبنان «ضمن الدول التي تسجّل أعلى مستويات تفاوت الدخل وانعدام المساواة في العالم» (ليديا أسود)، فهناك 10% من السكان يستحوذون على 55% من الدخل الوطني، و1% منهم فقط يستحوذون وحدهم على ربعه. أكثر من ذلك، إن «فئة الـ10% الأكثر ثراءً تستحوذ على 70% من إجمالي الثروة الوطنيّة، فيما تستحوذ فئة الـ1% الأكثر ثراءً على 40% من هذه الثروة».
في لعبة الارقام ايضاً، يقدّم البنك الدولي (برنامج مايلز) الشرح. فقد بلغت التدفقات الخارجية التراكمية الى لبنان نحو 147 مليار دولار بين عامي 1993 و2010. وسمح هذا القدر المرتفع من التدفقات بتمويل عجز كبير في تجارة السلع، يقدّر بنحو 121 مليار دولار. لفهم دلالات هذه الارقام المجرّدة، لجأ البنك الدولي الى المقارنة بخطّة «مارشال» لإعمار كل اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ بلغت قيمة حزمة المساعدات الشاملة نحو 170 مليار دولار (بأسعار عام 2005)، ولم تتجاوز حصّة المانيا منها أكثر من 10 مليارات دولار (بأسعار 2005)، ليطرح تساؤلاً مستفزاً: هل وضع لبنان اليوم يُقارن بوضع المانيا في عام 1965؟
كيف عملت الآلية؟ تؤدّي هذه التدفقات الى زيادة ودائع المصارف، أي مطلوباتها، وهي دين على كل الاقتصاد، ويتم توظيف هذه الودائع في زيادة الدين الذي يصبح بديلاً من الانتاج، ما دام كافياً لتمويل الاستهلاك. بدت هذه الآلية السهلة والمربحة جداً قابلة للاستمرار الى ما لا نهاية، وحتى وقت قريب، كان الجميع يعبرون عن اطمئنانهم الى حسن سير العملية بإدارة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الكفوءة (الذي يتولى منصبه منذ عام 1992 ويسجّل رقماً قياسياً تاريخياً لأطول ولاية مستمرة لحاكم بنك مركزي). فبحسب بيان صندوق النقد الدولي (بعثة المادة الرابعة 2018)، كان المصرف المركزي قادراً على توظيف هذه التدفقات في تثبيت سعر الصرف، ويساعد في تمويل الحكومة بطرح سندات طويلة الأجل للبنوك، ويضع أسعار الفائدة عند مستويات تضمن تغطية الاكتتاب في الأسواق الأولية لسندات الخزانة واليوروبوند، ويقدم دفعات تنشيطية للاقتصاد عن طريق مجموعة من برامج الدعم شبه المالي، ويعالج مشكلات البنوك الضعيفة، ويدعم أسعار الفائدة على الودائع لإطالة أجل استحقاقها، وينفذ الهندسات المالية لتعزيز رساميل المصارف ودعم نمو موجوداتها. و«بينما سمحت هذه الطائفة من العمليات لمصرف لبنان بأداء دور حيوي في الحفاظ على النموذج الاقتصادي الحالي وإدارة فترات الأزمة بكفاءة، فإن لهذه السياسات تكاليف أيضاً، حيث أدت إلى خلق أموال احتياطية جديدة، وأضعفت الميزانية العمومية لمصرف لبنان، وخلقت مجموعة مختلفة من المخاطر على الاستقرار المالي عن طريق تعريض البنوك لمخاطر سيادية كبيرة وتفاوتات في آجال الاستحقاق».
وبحسب تقرير آخر لصندوق النقد الدولي (تقرير تقييم القطاع المالي ــــ 2016)، فإن أكثر من 60% من موجودات المصارف موظفة حالياً في الادوات السيادية، واكثر من 90% من توظيفات المصارف في القطاع القطاع الخاص والأسر باتت مرتبطة بالقطاع العقاري مباشرة (قروض سكنية وقروض عقارية) أو بطريقة غير مباشرة (ضمانات ورهون عقارية).

الانقلاب: كيف نموّل النظام مجدداً؟
حصل «انقلاب» بعد عام 2010، ولم يعد المصرف المركزي يمتلك القدرة على مواصلة الآلية نفسها، فقد تراجع منسوب التدفقات الخارجية بحدّة، ولم يبلغ مجموعها التراكمي بين عامي 2011 و2016 سوى 55 مليار دولار، في حين استمر تنامي العجز التجاري ليبلغ أكثر من 85 مليار دولار في الفترة نفسها.
يعكس ميزان المدفوعات هذا الانقلاب بشكل أوضح؛ فمنذ نهاية الحرب في لبنان، سجل ميزان المدفوعات فوائض سنوية متتالية، بلغ رصيدها التراكمي (في 20 سنة) حتى عام 2010 نحو 28.6 مليار دولار، أي بمتوسط سنوي قدره 1.4 مليار دولار. وسجلت أعلى مستوياتها في عام 2009 (في ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية)، عندما بلغ الفائض المسجّل في هذا العام وحده نحو 7.9 مليارات دولار. إلا أن هذا الميزان بدأ منذ عام 2011 بتسجيل عجوزات متواصلة، بلغ مجموعها التراكمي (في 7 سنوات) حتى نهاية عام 2017 نحو 8.3 مليارات دولار، ما عدا في عام 2016 عندما سجّل فائضاً بقيمة 1.2 مليار دولار، مدفوعاً بأرباح الهندسة المالية الضخمة، التي أجراها مصرف لبنان مع المصارف، والتي كلفت المال العام نحو 5.6 مليارات دولار، جنتها المصارف وكبار مودعيها كأرباح استثنائية (بنسبة 40%) على توظيفاتهم بالدولار.
بتبسيط شديد، يعني العجز في ميزان المدفوعات أن حجم العملات الصعبة الخارجة من لبنان هو اكبر من حجمها الداخل اليه. وعندما تتكرر هذه الظاهرة سنوياً، ولسنوات عدّة متتالية، فهذا يعني ان النظام لا يستطيع الاستمرار في تمويل نفسه عبر الآليات القائمة، وهو مضطر الى إجراء «تعديل ذاتي» ينطوي على إعادة هندسة، ولو جزئية، للاقتصاد والمجتمع، وبالتالي تحديد من يربح ومن يخسر في هذا التعديل.
في العادة، تلجأ الدولة الرأسمالية الى سياسات «قص الشعر» عندما تواجه مشكلة التمويل، أي تخفيض الدين العام أو تخفيض كلفته (طواعية أو جبراً) بما يخفف طلبها للتمويل ويحافظ على مستوى إنفاقها العام واستهدافاته، أو تلجأ الى تغيير سياسة سعر الصرف والاعتماد على سياسات النمو المدفوع بالتصدير، أو تلجأ الى حلول جذرية ترمي الى تغيير كل النموذج الاقتصادي وتخفيف تبعيته للتدفقات الخارجية من خلال زيادة الانتاج وتطوير بنية الاقتصاد وجعلها اكثر قابلية لاستثمار ميزات المجتمع وقدراته الكامنة، أو تلجأ الدولة، كما حصل في لبنان سابقاً ويحصل اليوم، الى استخدام مزيج من الهندسات المالية وسياسات سعر الفائدة للمحافظة على مستوى معين من التدفقات الخارجية للحد من الاختلالات الكبرى، ولو أدّى ذلك الى زيادة مستوى مديونية الاقتصاد. وهذا اتجاه بالغ الخطورة، ويضع المجتمع امام مخاطر هائلة. فقد تجاوزت مديونية الدولة والقطاع الخاص والاسر مستوى 200 مليار دولار حالياً، أي أكثر من 375% من مجمل الناتج المحلي، وهذا يرتّب عبئاً غير قابل للتحمّل، ولا سيما أن الأسر باتت مديونة مباشرة بأكثر من 21.5 مليار دولار، أي أكثر من نصف الدخل المتاح لها للاستهلاك، وأكثر من 40% من مجمل الناتج المحلي... وبالاستناد إلى إحصاءات مصرف لبنان في 2017، تضاعفت الديون الشخصية منذ آخر انتخابات نيابية (احصاءات عام 2010)، وارتفع عدد المدينين في هذه الفترة من نحو 500 ألف مدين إلى اكثر من مليون مدين، 80% منهم تقريباً لجأوا إلى الاستدانة لتمويل استهلاكهم وشراء مساكنهم وسياراتهم وتسديد أقساطهم.

ما العمل؟ كيف تشتري المزيد من الوقت؟
قدّم النظام جوابه الصريح في مؤتمر باريس 4، قبل الانتخابات النيابية بشهر واحد فقط، وأعلن أنه بصدد إعادة ترتيب واسعة، توفّر له استمرارية التمويل لفترة اطول، بانتظار المنافع الموعودة من «إعادة إعمار سوريا»، ثم بدء التدفقات الموعودة من استخراج البترول من البحر، ولكن هذا الجواب ينطوي على تضحيات كبيرة وتنازلات اضافية امام رأس المال المحلي والاجنبي. تقول الحكومة إنها ستطرح مشاريع في البنية التحتية بقيمة تصل الى 17 مليار دولار في السنوات الثماني المقبلة، وسيجري تنفيذها إمّا بقروض خارجية وإمّا بواسطة الخصخصة وعقود الشراكة مع القطاع الخاص، ما يعني ببساطة أن الرابحين من المديونية العامّة سيربحون مجدداً. فكما هم قادرون على إقراض الدولة، هم قادرون ايضاً على شراء موجوداتها وأصولها ومرافقها واحتكاراتها وامتيازاتها المعروضة للبيع أو التأجير. أمّا الخاسرون الذين تحمّلوا حتى الآن كلفة خدمة المديونية العامّة، فهم وحدهم مدعوون الى بذل التضحيات، ليس عبر تحميلهم المزيد من الضرائب على الاستهلاك فقط للاستمرار في خدمة المديونية العامّة (يوصي صندوق النقد الدولي بزيادة الـTVA وضريبة البنزين)، بل عبر المزيد من التقشف، ولا سيما إلغاء دعم أسعار الكهرباء وتخفيض التقديمات الاجتماعية ومعاشات التقاعد للموظفين في القطاع العام، ورفع اسعار الخدمات، ولا سيما الكهرباء والمياه والصرف الصحي وجمع النفايات ومعالجتها، وفرض رسوم عبور على بعض الطرقات المزدحمة وزيادة تعرفات النقل، إذ إن نقل الخدمات والمرافق من عهدة الدولة الى عهدة المستثمرين لا يؤدي الا الى زيادة الكلفة ونقلها من ميزانية الدولة الى ميزانيات الاسر وإخفاء المستوى الفعلي للمديونية بواسطة تسجيل الدين على الشركة الملتزمة بدلاً من تسجيله على الدولة، مع أن الدولة هي التي ستسدد في النهاية هذا الدين وفوائده مع ربح الشريك الخاص.

سوّغ السياسيون التعامل مع «الاقتصاد» كشيء مستقل عن «السياسة» او «الشأن العام» وصولاً الى اعتبار المصارف كيانات غير خاضعة للسيادة


سرعان ما سيطر خطاب «الاصلاح» وغاب خطاب «التغيير» في الانتخابات كلياً. فعلى الرغم من فداحة النتائج الماثلة اليوم ومخاطر النتائج المتوقعة لاحقاً، لا يزال «الاقتصاد» يقدّم بوصفه عارضاً سيّئاً ناتجاً من «سوء إدارة» أو من «سوء أمانة»، وهذا تحديداً ما يعنيه اشتراك جميع المرشحين في هذه الانتخابات، في الحديث عن «الفساد» بوصفه المصدر الوحيد لكل العلل.
ولكن الفساد، على الرغم من فداحته، يبقى ثانوياً على سلم الاسباب، وهو يبدو كنتيجة أكثر منه كسبب. يجدر بكل ناخب مقيم أن يكون مدركاً أنه غداً، عندما يضع صوته في صندوق الاقتراع، سيقترع، الى جانب مسائل اخرى مهمة، مع أو ضد الجواب الذي قدّمه النظام لحل مشكلة تمويله الداهمة وضمان استمراره لفترة طويلة. لا شك في أن ما قدّمه المرشحون في هذه الانتخابات لا يتضمن أي أجوبة بديلة جدّية، يمكن تصنيفها في خانة «الجذرية» أو بداية ظهور «خطاب التغيير الاجتماعي». ولكن، في هذه اللحظة، التي يتجه النظام فيها نحو المزيد من سياسات «القليل من الدولة» بدلاً من سياسات الإكثار منها، توجد عناصر كثيرة لتنامي الصراعات والتناقضات بين «الشركاء» أنفسهم، وبينهم وبين من يطرحون أنفسهم كبدلاء أو شركاء اضافيين. هناك من يتحمّس للجواب المقدّم ويريده بقوّة، وهناك من هو أقل حماسة بدرجات متفاوتة وبحسب العناوين والقضايا، وهناك من يعارض هذا الجواب أو يعترض على بعض عناصره... وهذا ما سيجسّده المجلس النيابي الذي سينبثق عن الانتخابات الحالية، وعلى غرار ما حصل في عام 1992، وأدى الى زيادة سرعة تركّز الثروة والدخل وزيادة حدّة الوجع الذي تحدثه التفاوتات الاجتماعية السحيقة، فإن المجلس العتيد مدعوّ الى مهمة شبيهة بمهمة مجلس عام 1992، أي تهيئة البيئة الحاضنة لإجراء التعديل المطلوب وكبح كل عائق أو معارضة عبر إيجاد سبل جديدة للمساومة والمحاصصة، وهذا ما يعنيه الخلاف بين قوى السلطة نفسها بين من يريد تمرير كل المشاريع المطروحة من دون عرضها على مجلس النواب، ومن يريد أن يتعامل مع هذه المشاريع بالمفرّق، ليضمن حصته فيها أو توزيعها «العادل» بين الرأسماليين النافذين... أو التحفيف من وطأتها على قاعدته الاجتماعية.
صحيح أن هذه الخيارات ضيقة وقد لا تستحق الدفاع عنها أو الدعوة إلى الاقتراع لها، ولا سيما أنها تتّسم بالتعقيد، في ظل تداخلها مع المسائل السياسية والثقافية المهمة، ولكنها تبقى الخيارات الوحيدة بين الأكثر سوءاً والأقل سوءاً. هذا هو المطروح أمام الناخبين غداً، وهذا ما سيقررونه.



هل تريد ان تنقذ هذا النموذج؟

(مروان طحطح)

ارتفعت المديونية العامّة للدولة (الحكومة ومصرف لبنان) من 3 مليارات دولار في مطلع التسعينيات الى 138 ملياراً حالياً، أي أكثر من 260% من مجمل الناتج المحلي، وهو مستوى تاريخي قياسي، يستنزف نصف إيرادات الحكومة تقريباً، ويضع مصرف لبنان تحت عبء خسائر متنامية في ميزانيته تقدّر حالياً بأكثر من 12 مليار دولار.
لقد سدّد المقيمون في لبنان طيلة السنوات الـ25 الماضية (1993 ــ 2017) أكثر من 144 مليار دولار كضرائب ورسوم وتعرفات واتاوات، ولم تنفق الحكومة في هذه الفترة خارج خدمة الدين العام سوى 139 مليار دولار، أي إن ما تكبّده المقيمون كان كافياً لتمويل كل الإنفاق مع تحقيق فائض أوّلي بقيمة 5 مليارات دولار، لولا خدمة الدين الحكومي التي استأثرت وحدها بأكثر من 77 مليار دولار من الإنفاق العام، وكانت هي المسؤولة عن تنامي المديونية باطراد.